ليست الزيارة الأولى ولن تكون الأخيرة للفريق محمد حمدان حميدتي النائب الأول لرئيس مجلس السيادة
السوداني إلى القاهرة، والتي بدأها السبت بدعوة من المشير عبد الفتاح السيسي، فحميدتي هو أقرب القادة السودانيين للسيسي ولرجله القوى عباس كامل رئيس المخابرات العامة والذي كان في زيارة إلى السودان قبل أسبوع واحد عقب محاولة الاغتيال الفاشلة لرئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك.
يدرك نظام السيسي وغيره من أنظمة الثورات المضادة أن حميدتي هو رجلهم المفضل، وهو الشخص القوي في السودان الذي يمكنهم الاعتماد عليه، كما يدرك نظام السيسي أن حميدتي مستعد لفعل أي شيء مقابل الحصول على دعم سياسي لتميكنه هو أيضا من الانفراد بحكم السودان.
الزيارة الحالية لحميدتي للقاهرة تأتي عقب فشل الجولة الأخيرة لمفاوضات
سد النهضة التي رعتها الإدارة الأمريكية والبنك الدولي في واشنطن، والتي أسفرت عن مسودة اتفاق حول القضايا العالقة فيما يخص ملء السد، وقد وقعت
مصر على تلك المسودة بينما رفضت إثيوبيا والسودان التوقيع.
لم يكن هذا
الموقف السوداني هو الأول من نوعه، بل تكرر أيضا في رفضه بيان وزراء الخارجية العرب، الذين اجتمعوا في القاهرة في 8 آذار/ مارس الماضي وأصدروا بيانا داعما لمصر في تلك الأزمة؛ رفضت مندوبة السودان التوقيع عليه، بل إن الخرطوم اعتبرت هذا البيان مفجرا لأزمة عربية إثيوبية.
كان الموقف السوداني، سواء من مباحثات واشنطن أو من البيان الوزاري العربي، صادما لنظام السيسي الذي كان يتوقع موقفا داعما من السودان، خاصة أن النظام الجديد في الخرطوم لقي حفاوة ودعما من القاهرة منذ اللحظات الأولى باعتباره نظاما مشابها للنظام المصري، من حيث هيمنة العسكريين على الحكم انقلابا على الإسلاميين الذين حكموا السودان في الفترة الماضية، ولذلك كان هناك شعور عام بأن هذا التشابه بين النظامين سينتج دعما سودانيا للقاهرة، يتجاوز الدعم الذي قدمته حكومة عمر البشير من قبل، وهو ما لم يحدث!!
الموقف السوداني الصادم تسبب في انكشاف نظام السيسي، وضياع الفرصة الأخيرة التي كان يراهن عليها في مفاوضات واشنطن، ومن هنا يحاول هذا النظام التحرك سريعا الآن في الوقت الضائع لصناعة ظهير عربي إقليمي داعم يمكنه من التحرك عالميا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خاصة في عملية ملء السد، وجدولها الزمني، فأوفد مبعوثيه لبعض العواصم العربية لنيل دعمها، مثل الإمارات والسعودية اللتين تستثمران مليارات الدولارات في إثيوبيا، ولكنه يرى أن الموقف السوداني سيكون هو الموقف الأهم إذا نجح في الحصول على دعمه، وعلى توقيعه على اتفاق واشنطن.
لكن ماذا بيد نظام السيسي ليقدمه لحميدتي أو للسودان لتغيير موقفه؟
الوضع في السودان معقد بحكم تركيبة الحكم القائمة حاليا بين مدنيين وعسكريين، ومساعي كل طرف منهما لكسب دعم إقليمي أو دولي في مواجهة الطرف الآخر بهدف تحسين وضعه في معادلة الحكم أو حتى الانفراد به تماما، ومن هنا تابع الجميع تحركات القادة السياسيين والعسكريين السودانيين خلال الفترة الماضية، والتي كان من بينها لقاء رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان مع نتنياهو، وليس بعيدا عن ذلك اللقاءات المتكررة بين القادة العسكريين السودانيين مع نظرائهم المصريين. ومن هنا يبدو مفهوما مغازلة القاهرة للفريق حميدتي الطامح في حكم السودان، أو على الأقل تعزيز وضع المكون العسكري في الحكم السوداني، وبقائه لأطول فترة ممكنة.
المشكلة أن النظام المصري لا يستطيع فعل الكثير للسودان سوى دعم الحكم العسكري من خلال خبراته الأمنية واللوجستية فقط، وهو ما يفعله بحكم المصالح المشتركة، ولكنه لا يستطيع تقديم دعم مادي للسودان. ورغم أنه وعد سابقا بالتوسط لدى بعض الدول الخليجية الصديقة لتقديم المزيد من المساعدات والدعم للسودان، فإن الأمر سيظل محل شك لسبب بسيط، وهو أن علاقة هذه الدول بالنظام السوداني ليست أقل من النظام المصري، فهي تعتبر نفسها كفيلة لكلا النظامين اللذين أتت بهما إلى سدة الحكم، وأن من واجبها تقديم ما أمكنها من دعم لبقائهما لأطول فترة ممكنة.
تبقى الورقة الأمنية هي الورقة الأخيرة بيد النظام المصري لدعم أقرانه في السودان، ولذلك فقد أبقى ملف السودان بيد رئيس جهاز المخابرات العامة وليس بيد وزارة الخارجية، ومن هنا تعددت زيارات اللواء عباس كامل إلى السودان، والتي كان آخرها قبل أسبوع تقريبا عقب
المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، والتي وجهت الحكومة السودانية أصابع الاتهام فيها لبقايا نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، وبعض العناصر الأجنبية المقيمة في البلاد. وكانت الإشارة هنا حسب الإعلام السوداني موجهة إلى بعض الإسلاميين المصررين المقيمين في السودان، والذين تم القبض عليهم مؤخرا، ولكن ما يفسد هذه الرواية هو أن القبض على تلك العناصر كان سابقا بفترة طويلة لمحاولة اغتيال حمدوك، كما أن هذه الرواية التي ذهب عباس كامل إلى الخرطوم لتثبيتها ستجد مصاعب لتمريرها على المحققين الأمريكيين الذي يشاركون في التحقيقات حاليا.
من المتوقع أن يستغل حميدتي علاقته المتوازنة بالنظامين المصري والإثيوبي لبدء وساطة بينهما حول
قواعد ملء السد، لا تستند إلى مسودة اتفاق واشنطن، ولكنها في الوقت نفسه تحفز الطرف الإثيوبي لتأخير بدء عملية الملء الأولى التي وعدت الحكومة الأثوبية ببدئها خلال أربعة شهور وقبل اكتمال بناء السد، وكذا إطالة مدة الملء الكلي للخزان ربما لعام إضافي، وبذلك يكون قد حقق نصر معنويا لنفسه ولصديقه السيسي دون أن يمس ثوابت الموقف الإثيوبي.