قضايا وآراء

مات مبارك ولم تمت دولته!

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
لم يمت الطاغية "حسني مبارك" يوم السادس والعشرين من شباط/ فبراير عام 2020، بل مات يوم الحادي عشر من شباط/ فبراير عام 2011، يوم خلعه الشعب المصري في ثورة يناير العظيمة، ودُفن بعد تسع سنوات ذاق خلالها قليلا من كأس الذل والهوان الذي أذاقه لشعبه الكريم طيلة ثلاثين عاما، والذي نسي سريعا حكمه الفاشي المستبد وما اقترفه في حقه من جرائم، وما سرقه هو وأسرته من ثروات بلاده، وما خلفه من خراب في التعليم والصحة والزراعة والصناعة والاقتصاد؛ بل ذهب الكثير من أبناء هذا الشعب الطيب ليترحم عليه، ويقول "اذكروا محاسن موتاكم".. بل الأدهى والأمر، أن ينعاه رموز ثورة 25 يناير الذين ثاروا ضده وطالبوا بإعدامه حينها، واليوم يرثونه برسائل عاطفية تمجده وتبجله، من أمثال الدكتور "محمد البرادعي"، والدكتور "أيمن نور"، و"حمدين صباحي"، والدكتور عمرو حمزاوي، والدكتور "محمد محسوب"، والدكتور "عصام حجي"، و"وائل غنيم"ـ وآخرين للأسف محسوبين على ثورة يناير!!

هل هذا تسامح أم ثورية زائفة؟ أم إن هؤلاء مرضى مصابون بعقدة المازوخية (أي التلذذ بالتعذيب)؟! فإذا كان تسامحا، فهو في غير موضعه، ولا يقبل مع الطواغيت بعد موتهم، ففيه تزوير للتاريخ، ومن شأنه العبث بالذاكرة الجمعية للأمة.

هؤلاء الطواغيت لا يستحقون الترحم عليهم، بل تجب محاكمتهم عما اقترفوه من جرائم في حق أوطانهم، وإذا كان مبارك قد أفلت من هذه المحاكمة العادلة في الدنيا، فإنه الآن يُحاكم أمام المحكمة الإلهية التي لن يستطع أن يفلت منها. فكتابه ينطق بالحق بما فعله من جرائم؛ ليس في حق شعب مصر فقط، بل في حق الأمة كلها، ولن يجد المحامي فريد الديب، ليدافع عنه ويزوّر الكتاب كما زوره في الدنيا، فهو أمام القاضي العادل الجبار، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولو كانت مثقال حبة من خردل..

في كتابه، ثلاثة عقود عاشها الدكتاتور "حسني مبارك" حاكما مستبدا فاشيا، قتل فيها السياسة في مصر تماما. وكان عنيدا لا يتراجع عن قرار اتخذه حتى لو كان خاطئا، ولا يصدر قرارا كان قد اتخذه في صالح البلد إذا أشار إليه أحد في الصحف. كان يكره أن يعارضه أحد، ولذلك فصّل معارضة مستأنسة على مقاسه، مصنوعة على يديه في أجهزته الأمنية. كان كل همه تثبيت حكمه، لذلك ظل بعض الوزراء ما يقرب من ربع قرن محتفظين بوزارتهم ولم ينافسهم أحد طالما أنهم مطيعون وينفذون أوامر ولي نعمتهم! يعزو ذلك لرغبته باستقرار مصر، وهو في حقيقة الأمر جمود وركود وليس استقرارا. ولأنه يدرك قدراته المحدودة والمتواضعة، تم إبعاد كل القيادة الواعدة ولم يسمح بإعداد قيادات جديدة ليست تحت جناحيه، ما أتاح له أن يفسح المجال لابنه جمال كي يرث الحكم من بعده..

في عهده تم تجريف كل مؤسسات الدولة؛ من تعليم وصحة وإعلام وزراعة وصناعة وانهارت البنية التحتية.. إلخ، وتصاعد الفساد بشكل غير مسبوق، وأصبحت مؤسسة الفساد أقوى مؤسسة في الدولة. وتحت شعار الخصخصة، باع القطاع العام، وترك ابنيه يعبثان في ممتلكات الدولة وثروات البلاد ويسرقان المليارات من بيعها، ويودعانها في بنوك أمريكا وسويسرا

يقول وزير الخارجية الأمريكي السابق "جون كيري" إن ثروة "حسني مبارك" في أمريكا فقط 31.5 مليار دولار، وقد جمدتها أمريكا، كما أعلنت سويسرا أن لديها (700 مليون فرانك سويسري) أي ما يزيد على (700 مليون دولار). وكانت صحيفة "الجارديان" قد نشرت في أعقاب ثورة يناير، أن ثروة مبارك وعائلته تقدر بحوالي (70 مليار دولار) موزعة ما بين بنوك في بريطانيا وسويسرا، بالإضافة إلى بعض الممتلكات الخاص في أمريكا والمملكة المتحدة..

في عهده تم تدمير الزراعة تماما، وأدخلت المبيدات السرطانية في المحاصيل، التي حصدت أرواح ملايين المصريين موتا بالسرطان أو بالفشل الكلوي..

وفي عهده، امتلأت السجون بآلاف المعتقلين، ذاقوا أشد ويلات العذاب، وزاد عدد الموتى المصريين في الحوادث المختلفة نتيجة الفساد وانهيار المرافق. أذكر منها حادثتين على سبيل المثال لا الحصر: حادث حريق قطار الصعيد عام 2002 الذي تفحمت فيه المئات من جثامين المصريين، ليلة عيد الأضحى!

أما الحادث الثاني، فهو عبّارة "السلام" عام 2006 التي غرقت في البحر، وراح ضحيتها آلاف المصريين. ولأنها مملوكة لأحد رجال الأعمال القريبين من السلطة، فقد تمت التغطية والتعتيم على الحادث وتهريبه خارج البلاد!

وهو أيضا المسؤول عن قتل المئات من المتظاهرين أثناء ثورة يناير بأوامر صادرة منه شخصيا بصفته رئيسا للبلاد، ناهيك عن مسؤوليته في جرائم كبرى في حق دول عربية عدة، أذكر منها العراق، فهو الذي ادعى وحرض الأمريكان أن صدام يملك أسلحة كيماوية، وكان سببا لغزو العراق. أما عن غزة فحدث ولا حرج فهو الذي أحكم حصارها؛ بعدما فازت حماس في الانتخابات 2006، ومن على أرضها تم إعلان الحرب على غزة بلسان وزيرة الخارجية "تسيبي ليفني".

وهو المسؤول عن تراجع دور مصر الإقليمي، وتركه طواعية للكيان الصهيوني وتركيا وإيران، وفي حكمه أيضا ضاع دور مصر في أفريقيا..

لقد بكى الصهاينة على موته؛ فلقد كان الكنز الاستراتيجي للكيان الصهيوني كما عبر الصهاينة بأنفسهم. ففي عهده تمت صفقة الغاز، وتم ترسيخ السلام الدافئ كما عبر نتنياهو في نعيه له.

هذا غيض من فيض؛ فإخفاقاته على مدار ثلاثة عقود لا تحصى ولا تعد. فقد ترك مصر تعاني من الفقر والجهل والمرض والتخلف، وستبقى آثار ما فعله في مصر خلال تلك الفترة باقية إلى الأبد. كيف نسي أو تناسي البعض المصري كل هذه الجرائم ويترحمون عليه ويقولون له ما له وعليه ما عليه.. هذا ما عليه، فقولوا لنا ما له؟!

ويزعم البعض أنهم يترحمون على أيامه، لأنهم الآن يعيشون ما هو أسوأ منها بكثير، ولكننا نرد عليهم بأن أيامه هي التي أخلفت تلك الأيام التي يعيشونها الآن.. هي نتاج طبيعي لما زرعه مبارك في أرض المحروسة، وأنبتت ما هم فيه!

وهنا يحتار المرء في تفسير هذه "الشيزوفرانيا" أو ما يسمونها "متلازمة ستوكهولم (عندما يتعاطف الضحية مع الجلاد) التي أصابت الشعب المصري، كيف أسقطتموه ورقصتم وغنيتم يومها بانتصاركم ورحيله، واليوم تبكون على موته؟!

ولكي نحاول تفسير هذه الحالة المستعصية على الفهم، فلنعد بالزمن للوراء بعض الشيء في دولة العسكر، أثناء أزمة آذار/ مارس عام 1954 والخلاف الحاد الذي نشب بين أعضاء مجلس قيادة الثورة من الضباط؛ وكاد أن يعصف به، ومطالبة "محمد نجيب" بحله وتسليم السلطة للشعب، نجد أن الشعب المصري الذي كان يهتف بحياة "محمد نجيب"، رئيس الجمهورية في ذاك الوقت، لكن استطاع "جمال عبد الناصر" أن يحول بوصلته ويخرجه ليهتف ضد نجيب وضد الديمقراطية!!

إنه هو نفس الشعب الذي يصفق للشيء وضده في نفس اللحظة كما كان في خطاب عبد الناصر، بعد انفصال سوريا عن الوحدة عام 1961 حينما قال: "أرسلت قوات عسكرية لتقضي على الانقلاب ولاستمرار الوحدة"، فقفزوا من مقاعدهم وصفقوا بحرارة شديدة، ثم استدرك قائلا: "لكنني قررت الحفاظ على الدماء العربية، وألا يقاتل الأخ العربي أخاه العربي"، فعادوا وصفقوا بنفس الحرارة!!

هذا هو الشعب المصري الذي خرج يوم التاسع والعاشر من حزيران/ يونيو 1967 بعد الهزيمة النكراء واحتلال أرضنا؛ ليطالب قائد الهزيمة بأن يبقى وألا يتنحى، ومنه خرج نائب الأمة يرقص في مجلس الأمة، بعد عدول الرئيس المهزوم عن التنحي؛ في الوقت الذي كانت فيه دماء الجنود المصريين الطاهرة تروي أرض سيناء الحبيبة!!

هذا هو الشعب المصري الذي خرج بالملايين في جنازة عبد الناصر، يشق الصدور ويندب ويبكي على مَن أذاقه الذل والهوان وسومهم سوء العذاب!

هذا هو الشعب المصري نفسه، الذي يترحم على مبارك، بعد ما خلعه في ثورة عظيمة..

هذا هو الشعب المصري الذي تربى في حظيرة العسكر ما يقرب من السبعين عاما، استطاع خلالها أن يغسل أدمغته ويشكل وجدانه على هواه..

ولا نستطيع أن نغفل أيضا، سمات راسخة في الشخصية المصرية كسمة التسامح ونسيان الإساءة، كما أن الشخصية المصرية، بصفة عامة صبورة ومسالمة؛ أخذت سمتها من طبيعة مصر، كبلد زراعي يعمل معظم شعبه بالزراعة؛ والتي تتطلب الصبر والرتابة المميتة والهدوء الممل..

أضف لذلك ميراث الظلم الذي عانى منه المصري على مدار تاريخه الطويل الممتد منذ الفراعنة، والذين كان ينظر إليهم كآلهة على الأرض، يتحكمون في أرواح المصريين ومصائرهم ومقدراتهم، مما جعل الشعب يقابل الظلم والإذلال بمزيد من الخنوع والخضوع له!

ترسخت تلك النظرة الفوقية في الوجدان المصري للطبقة الحاكمة أيا كان شكلها (حكم الفراعنة أو حكم السلاطين والملوك إلى أن وصلنا لحكم العسكر)، ولكنها تظل دوما وأبدا غير طبقتهم؛ هم السادة والشعب العبيد، ومن هنا انبثقت عبارة "البلد بلدهم، والورق ورقهم"، وكذلك عبرت عنها الأمثال الشعبية المتوارثة "المية ما تجريش في العالي"، "واللي يبص لفوق يتعب"، "الإيد اللي ما تقدرشي تقطعها بوسها"، "لو كان لك عند الكلب حاجة قوله ياسيدي".. إلى آخر ذلك من تلك الأمثال التي تعبر عن خنوع الشعب المصري أمام حكامه وخضوعه ورضوخه لهم، والرضا بالعيش الذليل بدلا من مقاومة الظلم ومواجهة الظالم!

ولقد تصورنا أنه تخلص من هذه السمات السلبية المريضة في شخصيته، بعد ثورة يناير العظيمة والتي ردد فيها المصريون جميعا "ارفع رأسك فوق أنت مصري"، وانتخبوا رئيسا منهم، أي من طبقتهم، طبقة الفلاحين، لا ينتمي للطبقة الحاكمة التي يؤلهونها.. الدكتور "محمد مرسي" كان يعيش مثلهم في شقة مستأجرة وليس في القصور، يأكل مثل أكلهم ولا يتعالى عليهم، ولم يعد هناك سادة ولا عبيد ولم يشعرهم بذلك أبدا، ولكنهم بدلا من أن يسعدوا بهذا الوضع الجديد الذي أعاد إليهم آدميتهم وكرامتهم، انقلبوا عليه وأسقطوه.

ولست في هذا التحليل السريع بصدد أن أسرد المؤامرة التي حيكت ضد الرئيس مرسي من دولة الإمارات ولا حركة تمرد المخابراتية، ولكن ما يهمني هو ذلك الشعب الذي فُتن وخرج إلى الشوارع يهلل ويرقص على أنغام "تسلم الأيادي" يوم الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب، إنه هو ذاك الشعب الذي ذاق الويل والعذاب من الحكام الآلهة الذين كانوا يحكمونه، فإذا به يعود طواعية إلى أحضانهم وبمحض إرادته؛ فكان من السهل إدخالهم بعد ذلك لحظيرة الخوف مرة أخرى، وليعودوا ينظرون للطبقة الحاكمة على أنهم السادة وهم عبيد إحسانهم!!

ولقد رسخت الجنازة العسكرية المهيبة الجنازة العسكرية المهيبة التي أقيمت لحسني مبارك هذا المفهوم بجدارة، والأوسمة والنياشين التي حملها العسكريون وسبقت نعشه وطلقات المدافع تكريما لجثمانه، وكأنهم أرادوا أن يُضفوا عليه نوعا من القداسة، على الرغم من أن المحكمة قد حكمت عليه حكما باتا ونهائيا في قضية مخلة بالشرف، وهذا طبقا للقانون والدستور يمنع من قيام جنازة عسكرية له، ولكن من البلاهة أن تتكلم عن القانون والدستور في بلد عاد لنغمة "البلد بلدهم، والورق ورقهم"!

كما أن هذه الجنازة ونعي الرئاسة له والحداد عليه وتنكيس الأعلام في الدولة، واحتفاء وسائل الإعلام المختلفة بتاريخه المزور ونعته بصفات ليست فيه، يدل على مدى إخلاص الطبقة الحاكمة بعضها لبعض، حتى لو كان الشخص فاسدا أو خائنا فلا بد وأن يُكرم!!

كما أنني أرى فيها مكايدة لثورة يناير ورسالة من النظام الذي يكرهها للشعب المصري؛ تقول إن ثورة يناير قد ماتت للأبد وإياكم أن تفكروا بإحيائها من جديد!

ولنا أن نقارن بين وفاة رئيسين سابقين لمصر"حسني مبارك" والدكتور "محمد مرسي"، لنتيقن أن الطبقة الحاكمة منذ 1952 تفرق بين العسكريين والمدنيين، فهم السادة، أما المدنيون فهم العبيد، مهما علوا عنهم في العلم والمعرفة. فلقد تجاهلت جميع وسائل الإعلام وفاة الرئيس الدكتور "محمد مرسي"، وكأنه لم يكن يحكم مصر، ومنعت السلطات أن تُقام له جنازة وأن يُدفن في قريته حسب وصيته، بل دُفن ليلا وسرا في مقبرة في إحدى ضواحي القاهرة، في حضور أفراد أسرته الصغيرة فقط!!

لقد دفن مبارك، وووري جثمانه الثرى، ولكن ظلت دولته الحاكمة حية تحكم مصر للآن..
التعليقات (0)