استعرضنا هذا الكتاب المهم الذي
كتبه الدكتور ياسين أقطاي، الباحث التركي في علم الاجتماع، ضمن كتاباته الخمس التي اقتربت من مواضيع مختلفة، وكان من الطبيعي أن نكتب عن كتاب "أرض الكنانة" الذي عالج أمر الثورة المصرية والثورة المضادة والانقلاب عليها؛ ضمن مقالات عدة أكدنا فيها في كلمة واحدة على ضرورة الفطنة لـ"معركة الذاكرة" ومحاولات طمسها أو تشويهها وتزييفها.
كانت تلك رؤية من جانب باحث اجتماع تركي، حينما يتحدث عن سنوات مضت في الخبرة المصرية من الثورة والانقلاب الذي طرأ عليها، ليكون ذلك موضع تحليل اجتماعي يعالج قضية ذات اهتمام وأهمية. ولكن هذا التناول يتسم بالعلمية والمنهاجية، على الرغم من أن موضوع الثورات تحوطه في الغالب حالة انفعالية ووجدانية، خاصة مع هؤلاء الذين عقدوا العزم على الدخول إلى معركة التغيير والأشواق المرتبطة به وآمال الشعوب المتعلقة بذلك.
وأتى الدور لأن نستعرض الكتاب المهم الآخر، ولكنه يشكل في هذه المرة اهتماما طبيعيا لكاتب الاجتماع التركي لتعلقه بالخبرة التركية، وما يمكن الإشارة إليه بـ"صعود حزب العدالة والتنمية" و"الحالة
الأردوغانية"، في كتاب اختار له الكاتب عنوانا مهما هو "أزمان
الكاريزما.. من منظور علم اجتماع الكاريزما".
وربما من أهم ميزات هذا الكتاب انخراط صاحبه في العمل الأكاديمي والسياسي على حد سواء، وهو ما يثري فن البحث والكتابة في ظواهر سياسية واجتماعية ناقشها مثل هذا الكتاب المهم.
وفي البداية لا بد وأن نشير إلى أنه كيف ينظر عالم السياسة والاجتماع إلى "الظاهرة الكاريزمية"؛ لأن تحديد هذه الظاهرة غالبا ما يحيط به جوانب معقدة تنبع من جوانب تركيب هذه الظاهرة، خاصة أن ما قد تستدعيه علامات زعامة كاريزمية في بلادنا يمكن أن تعتبره بعض بلاد الغرب علامات انفراد بالسلطة واحتكار لها والاستئثار بها؛ حتى أن البعض يفرط في ذلك فيشير إلى مؤشرات استبداد قد تحملها هذه الظاهرة.
وعلى الرغم من أنني كباحث مهتم بالعلوم السياسية لا يرى في ذلك التقييم الغربي في غالب أحواله إلا تحيزا مسبقا في النظر إلى بعض صور القيادة الكاريزمية في بلادنا الشرقية، فمن الأهمية بما كان أن نشير إلى أن الظاهرة الكاريزمية ذاتها تملك هذا التعقيد أيضا من جراء "السحر" الذي يحوط بها، حتى أن "ماكس فيبر" صاحب بلورة هذه النظرية قد أشار إلى "السحرة" باعتبارهم أحد أهم تجليات تلك الظاهرة.
وللأسف أننا في ثقافتنا العربية قد لا نجد الكلمة المناسبة لإطلاقها على هذه الظاهرة.
ويُربط في الكاريزما بين الأداء والإنجاز والقبول؛ ومن ثم استقر "ماكس فيبر" على أن يجعل الكاريزما أحد مصادر اكتساب الشرعية. فالأمر إذا يتعلق بطبيعة النظر إلى هذه الظاهرة واستيلاء هذه المعاني على الباحثين فيها، خاصة إذا ما اعترفوا بها وسلموا بوصفها، لأنها تركز على الشخص أكثر مما تركز على المؤسسة وأجهزة الدولة وقدرات الإدارة والتعبير عن كل مقدرات الإرادة والسيادة.
إنها قضايا متعددة تلف هذه الظاهرة المعقدة، والتي غالبا ما تشير كذلك إلى فجوة بين القيادة والأتباع.. فجوة تتعلق بالمشاركة الفعالة مع اقتصار هؤلاء الأتباع في إسهامهم على الامتثال وتنفيذ سياسات الزعيم، وهو ما يؤشر بشكل من الأشكال على بعض المؤشرات التي تدل على أن الظاهرة الكاريزمية قد تكون بالخصم من الحالة المؤسسية.
كان من أهم ميزات هذا الكتاب تلك الإسهامات التنظيرية والإشارات في التأكيد على بروز زعامة أردوغان وحالته الكاريزمية، والمسائل التي تتعلق بفكرة الكاريزما واختلاطها بقضايا أخرى من مثل العصبية والظلم والانقلابات ومسألة الشرعية. قضايا كثيرة تناولها الكتاب، وحاول الكاتب الربط بين إسهاماته النظرية وبين معمل الأحداث الاختباري وبين عمليات التطبيق التي أراد الكاتب أن يقدم فيها رؤيته ومواقفه الخاصة؛ ومن ثم فإن الكاتب يتوقف مليا أمام مصطلح أزمان الكاريزما بوصفه نقاشا واستجابة مستجدة داخل علم الاجتماع، والربط بين الظاهرة الكاريزمية ومسألة الشرعية، ومناقشة الأفكار الفيبرية بصدد ظاهرة القيادة الكاريزمية، مر فيها الكاتب على ذكر بعض الشخصيات التي أشار إلى تمثيل هؤلاء لتلك الظاهرة.
وبغض النظر عن تلك الخيارات فإن ظاهرة الكاريزما، كاريزما القادة وفاعليتهم وكياناتهم، مثلت قيما مهمة للشعوب والبلاد. أما في التاريخ التركي فإن فاعلية العنصر الكاريزمي ظهر بصورة مختلفة، وذكر الكاتب بعض الأسماء من واقع تلك الخبرة التركية، ليؤكد على جوانب التميز حول هؤلاء القادة في التاريخ التركي الذين يعرفون بأفعالهم وأفكارهم واتجاهاتهم السياسية. وفي عبارة مهمة أكد عليها، يعتبر الكاتب "الكاريزما حقيقة، ولكن بلا شك ليس من الضروري أن يتخلى الملقن (والباحث) عن كل شيء مقابل حقيقة الكاريزما".
وبغض النظر عن الاختلاف حول ظاهرة الكاريزما، فإن الكثيرين اعتبروا نجاحات أردوغان اختراقا عظيما في هذا المقام، في إطار الدعم الجماهيري الواسع بالكاريزما بما تمثله من قضية خاصة. ويشير الكاتب إلى أن حياة أردوغان مليئة بالقصص المكتملة والجامعة لهذا المنهج، ويؤكد على إعجابه الكامل بتلك القصة في الحالة الأردوغانية التي كانت تحمل الصفات الغائبة والكمالية والمتناغمة لتكامل القصة بشكل مبهر، مشيرا إلى استطاعته التغلب على جميع العقبات واحدة تلو الأخرى، بما فيها تخطيط خصومه (الأشرار) الذين زجوا به في السجن وأرادوا إنهاء حياته السياسية.. "لقد حاولوا خداع الشعب ومارسوا عليه ألوانا من القمع في محاولة منهم للقضاء عليه، ولكن في النهاية حقق الشعب انتصاره". وأشار الكاتب إلى أن قيادة أردوغان لحزب العدالة والتنمية قد أسهمت في مسح مفاهيم سياسية تتعلق بالسياسة التقليدية والمعروفة وكذا ممارسات السياسة؛ وبدا الأمر ملخصا في كلمة واحدة ودالة ألا وهي "
تركيا الجديدة".
وبغض النظر عن المعالجة التفصيلية للنجاحات التي حققها الحزب تحت قيادة أردوغان ومسيرته المتعلقة بالإنجازات، فإن الأمر المهم الذي يجب أن نشير إليه في "إغراء الكاريزما"؛ إلا أنه من الواجب على من يتحدث عن تلك الظاهرة وموضع الفرصة فيها في بلادنا في إنجاز ذلك النهوض بالبلد في معراج التنمية والنهوض؛ فإن عليه كذلك أن يتذكر مزيدا من الإشارات والتنبيهات والحذر والتحذيرات وتبصر مكامن الخطأ في التعويل الكامل عليها ومواضع الخطر بالاعتماد المطلق على ظاهرة الكاريزما.
فالكاريزما بما تعبر عنه إنما تشكل ظاهرة استثنائية ومؤقتة؛ تتعلق بقصة البطل والزعيم. فمن المهم أن نُذّكِر بتلك القاعدة الذهبية أن "الكاريزما قد تملأ الفراغ ولكنها من المؤسف حقا أنها تترك بعدها كل فراغ". ومن ثم فإن الحذر من ذلك الخطر لا بد وأن يشكل فرصة لتلمس وصناعة لتأسيس وبناء رؤية حول استثمار الكاريزما في بناء عملية المستقبل من دون كاريزما، أو على الأقل فلتتحول كاريزما الزعامة أو القيادة إلى كاريزما السياسة أو القرار، أو إن شئت الدقة بناء المؤسسة.
"كاريزما المؤسسة" هي من أهم الحلول في هذا المقام، والتي تجعل عملية الانتقال من الكاريزما إلى ما بعدها أمرا مأمونا ومضمونا إن كان مؤسسيا، وذلك لبناء مستقبل يقوم على فتوة ومبادرة الشباب. فالبحث عن كاريزما الجيل القادم على نحو مؤسسي إنما يشكل أهم عمل يمكن تقوم بها القيادة الكاريزمية في حياتها وعلى عينها.