كنت قد هممت بالكتابة عن ثورة يناير.. مذكرا الجميع بأنها ثورة لن تموت، إلا أن أحداثا بدأت تتوالى، وأتتني واحدة من الدعوات من مؤسسة جامعية لكي أتحدث عن مستقبل الثورات العربية، وكذا
الثورة المضادة التي لا زالت تواجه في الميدان كل بادرة لاحتجاج أو مطالبة بالتغيير، ولا تزال تمارس أقصى درجات العقاب لشعوب قد تجرأت للمطالبة بالتغيير ومواجهة نظم
الاستبداد.. ثم أتت الأخبار عن إعلانات ترامب حول
صفقة القرن بموافقة نظم عربية على حد ما أعلن من أخبار..
ومن هنا كان الخيار بأن أكتب عن الثورات العربية، ولكن بمناسبة ثورة يناير وأيامها المجيدة التي سبقتها شرارة ثورة تونس ولحقتها ثورات أخرى في اليمن وليبيا وسوريا في موجة أولى، حيث قررت الشعوب أن تعلن عن إرادتها وآمالها في التغيير.. وأن أكتب عن موجة ثانية في السودان والجزائر والعراق ولبنان، لتؤكد تلك الشعوب الحية لقوى التجميد والتطبيع والثورة المضادة أن هذه الشعوب (وليست ثورة يناير فقط) في مصر لن تموت، وأنها قادرة على أن تثور من جديد وتستأنف حراكا ظنت القوى المضادة للثورات أنها طوت صفحاته، وأنها انتصرت انتصارا مؤزرا حينما استطاعت بكل ألاعيبها وتدخلاتها أن تحوّل تلك الثورات، مواجهة لها وتبديلا لمسارها، إلى حروب أهلية أو انقلابات عسكرية وتثبيت نظم فاشية استبدادية، خاصة أن قوى الثورة المضادة حينما واجهت الثورات التي حدثت، متوالية وفرادى تحمل شعاراتها وهمومها.. هذه القوى واجهت تلك الثورات بشكل جماعي لأنها خافت على أنظمتها العميلة والمستبدة والمهترئة من أي صيحة تغيير؛ وهم يحسبون كل صيحة عليهم.
ومن هنا على تلك الثورات أن تثور خاصة في طبعتها الجديدة والمستأنفة ضمن استراتيجية مستجدة على كل أمر أحكم معادلات التبعية لا الاستقلال الحقيقي والتجزئة والتقسيم، والتخلف والانحطاط، ذلك أن تلك القوى المضادة للثورة والتغيير مثلت قوى حراسة للمستبدين والطغاة وبمساعدة قوى دولية وإقليمية؛ وبدا الأمر مرتبطا بتنفيذ صفقة القرن لمصلحة الكيان الصهيوني، لترتبط الثورات لزوما بالمقاومة لهذا الكيان والوقوف في وجه دعوات التطبيع من متصهينة العرب؛ في خطوات وعمليات بل وإجراءات ممنهجة تتوج الآن بدعوات محمومة لبداية خطة صفقة القرن، بإعادة تشكيل المنطقة من جديد في عمليات فك وتركيب مهينة؛ تستغل حال الضعف بل والخيانة من نظم وقيادات عربية كأدوات تنفيذ.
هذا الوضع صار وفق خطة محكمة بين منظومة ترامب وبعض الدول الغربية والإمارات والسعودية، لتشكل خطة متكاملة لمواجهة التغيير الذي هدفت إليه الثورات، ولتمرير صفقة القرن بإعادة التشكيل للمنطقة، لأنها تحقق أهداف عصابة خارجية تحرك وتساند عصابات داخلية في ظل تحويل الدول إلى دول مستباحة وساحات الأوطان لتمكين نظم وعصابات الاستبداد والاستعباد؛ فهي الوحيدة التي تقبل بأن تقوم بدور العميل نيابة عن الدخيل.
إن الاستشراف لمستقبل الثورات العربية والثورة المضادة يعد عملية شاقة، تحفها مخاطر محاكمة الواقع الذي يتحكم بنا ويضغط علينا ويفرض علينا اعتباراته حينا ويكرهنا على إملاءاته أحيانا. إلا أن هذه الضغوط يجب ألا تمنعنا من دراسة مشكلاته بغية تقويمها، الرصد والوصف ورفع الواقع كما هو عملية شاقة إلا أنها مطلوبة ولازمة وضرورية لفهم الواقع ودراسة قضاياه والوعى بموجبات تغييره وطرائق تقويمه عمليات بعضها من بعض.. مهمة أساسية تهدف لإعادة صياغة معادلات الوعي والسعي وفقا لمتطلبات الحاضر وضرورات المستقبل، وفي إطار فهم دقيق وعميق للثابت والمتغير والتعامل معهما وفهم موجبات العلاقة بينهما.
لكن يبقى الاستشراف فعلا إيجابيّا يحرك دواعي النقد والمراجعة والرصد المتواصل للواقع.. ربما يتحول إلى نقطة انطلاق باتجاه عملية التجديد الحقيقية والإصلاح الجذري الواجب، وموجبات التغيير وسننه المضطردة لإصلاح مساحات وساحات ومفاصل الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وتحقيق ترجمة واقعية لقيم تأسيسية ومقاصد مرعية تتمثل في منظومة قيمية دافعة وفاعلة؛ تتمثل في الوحدة والاستقلال والخروج من حال التبعية والحرية والمساواة والعدل والمواطنة والكرامة الإنسانية. بل إن هذا الاستشراف وبمناسبة هذه الموجة الثانية من الثورات العربية، يفرض علينا التفكير على مستوى الأمة وامتدادها وإنقاذها من براثن صفقة تحالف فيها المستبد الخائن والعميل مع الغازي الغاصب والدخيل، بلا مواربة وفي إطار من التلاعب بمقدرات الأمة ومصالحها واللعب على المكشوف.
بعد سنوات من تلك المسيرة المُحبطة لما سُمّي بـ"الربيع العربي"؛ تجاسر كثيرون، وبعضهم ممن سبق واحتفى به حدّ الهوس، فأطلقوا عليه الوصف الضد: "الخريف العربي"، على اعتبار أنه الفصل السياسي الذي لم يثمر في نظرهم إلا الحروب الأهلية، والتمزق الاجتماعي، والتناحر السياسي، وسيادة منطق الفوضى. واستشراء كل ذلك في مكان تشرق فيه شمس هذا الخريف/ الربيع يعني أن الأنظمة المستبدة أنتجت واقعا كارثيا محبطا للجماهير إلى أقصى درجات الإحباط.
ولكن، هناك يقين بات لا يقل عن هذا اليقين وضوحا، وهو أن موجات الغضب بعد أن تسنّمت السلطة لم تستطع حلّ المعضلة الاستبدادية، كما لم تستطع حل المعضلة التنموية التي هي محور التحدي.. أقسى صور الإحباط تتمثل في أن تعود دول الربيع العربي بعد تسع سنوات كاملة من الغضب الاحتجاجي المناهض للاستبداد إلى ما دون المربع الأول؛ فتتمنى الغالبية العظمى من جماهير الغضب عودة الاستبداد السابق بعد أن كانت تراه جحيما لا يُطاق. إنها دوّامة يأس لا تبتلع الأحلام فحسب، وإنما تبتلع أيضا إرادة التغيير، مع ما بقي من أحلام تائهة تلفها الحيرة. والمستبد كذلك لم يعد يمثل حالة من الظلم والفاشية والفساد والفشل مع صفقة القرن وقبلها، بل صار يمثل حالة من الخيانة والتفريط في مقدرات الأمة، المستبد مشروع خيانة بما يمثله من عمالة لدوره المرسوم له في صفقة القرن وتنفيذ خطتها ووقائعها التي تمثل اعتداء غير مسبوق على ثوابت الأمة، والمشاركة في عملية تصفية كبرى للقضية الفلسطينية لمصلحة الكيان الصهيوني.
أصبح جل التركيز الآن ينصب على محاربة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار والأمن، هذه الديباجة التي تستخدمها بلدان الاستبداد كوسيلة مشفرة.. سُرقت الثورات وتم الالتفاف عليها بمقولات إعلامية سابقة التجهيز مضخمة الآثار والمآلات، توارت أشواق الحرية وفعل الثورات، وتصدر المشهد محاربة الإرهاب ومشاهد الفوضى.. نعم رغم كل هذه الأحوال البائسة ستستأنف ملحمة ثورية قادمة، إنها معركة الأمل في مواجهة صناعات الفشل التي احترفها المستبدون؛ لأن أوهام الفزاعات التي تصطنعونها أو تغطونها بزيف أفعالكم أو زور خطابكم لم تعد تنطلي على وعي الثورات وأصحاب المصلحة فيها وفي تحقيق أهدافها وتكريس مكتسباتها.
إن المنطقة مُقبلة على متغيّرات تبعث على الأمل رغم بروز بعض العراقيل التي تتمثل فيما يُسمى بالثورات المُضادة. هذه المواقف المضادة للثورات العربية لن تستمرّ والوقت ليس في صالحها، وإنما في صالح مسارات تقدم ثورات مستجدة ومستأنفة. ففعل الثورات المضادة لم يؤتِ ثماره ولم يُكلل بالنجاح أمام صمود وقوة الثورات العربية الشعبيّة، غاية الأمر أن المنطقة مُقبلة على تغيير لا محالة، وأن ما حدث من بروز لما أطلق عليه "الثورة المضادة" في الأعوام الماضية لن يستمرّ أو يستقرّ، وليس أدل على ذلكذلك من هجاء الشعوب في الثورات المستجدة للسيسي باعتباره رمزا لانقلابات العسكر والثورة المضادة، وكذلك التأكيد على قضية فلسطين والتأكيد على أنها قضية كل ثائر عربي.
إن الحالة الثورية بكل زخمها إنما تواجه المستبد العميل الطاغي والغازي الدخيل الغاصب، وهي تعي من مشاهد صفقة القرن أن "المستبد مشروع خيانة".