نلجأ إلى الاستعارات لأن الحقيقة لا تحتمل

لا توجد الحقيقة في الطبيعة بشكلٍ صريح، ولا ينبغي لها أن توجد في العمل الفني بشكلٍ صريح أيضًا. الحقيقةُ تراوغُ طالبها، رحمةً به، فلا أحد يريد أن يتحول إلى تمثالٍ حجريّ لمجرد النظر إلى رأس ميدوزا. 

ينبغي أن نتعلم من السحالي. يقول راي برادبيري، فالسحالي سريعة. لكنني أعتقدُ بأن ما ينبغي أن نتعلمه من السحالي هو فنّ التخفي؛ أن تزرع المعنى، أيها الكاتب، مثل ورقة شجر يتضح لاحقًا أنها حشرة. أن يتبدل لون الكلماتِ إلى البنيّ الداكن عندما تكتبُ عن شجرة، ألا تضطر لأن تقول؛ شجرة.

كل الكائنات تجيد لعبة الاختباء، ونحن في طفولتنا أجدناها أيضًا. لعبناها مع آبائنا وأمهاتنا، وفهمناها جيدًا في أول مرة سألنا فيها: أين الله؟ 

إذا كان العمل الفني يعني أن تستعيد الطفل في داخلك، فعليك أن تلعب. فرس البحر الصغيرة تتظاهر بأنها غصينٌ معوجٌ عالق بالشعب المرجانية، والأسماك الأنبوبية تتظاهر بأنها أعشاب البحر. هل خطر ببالك مرة أن تخلق كائنًا أدبيًا، مثل القنفذ؟ أشواك سوداء تلفه من كل الجهات، لكنه طريٌ في أعماقه؟

أعتقد بأن لدى الكتّاب فرصة حقيقية لتلوين نصوصهم إذا شاهدوا السماء؛ إنها أرجوانية، وبنفسجية، وبصلية، وزرقاء، وسوداء على نحوٍ بهيم. مرصعة أحيانًا، ومغطاة بالسحب أحيانًا. السماء تتلون مثل قلبِ إنسان، ومثل الحقيقة.

يمكننا أن نتعلم أيضا من الرياضيات. تظنُّ بأن هناك جوابًا نهائيًا لكل شيء؟ إذا كانت المسافة بين رقم 1 ورقم 2 متناهية، فهي أيضًا أبدية، تخيل معي زحفك الوئيد من رقم 1 إلى رقم 2: 1.01، 1.011، 1.0111. يمكننا أن نواصل إلى الأبد. فهل ظننت حقًا أن الحقيقة بسيطة؟ 

إنك تمضي الساعات في الفصل الدراسي لتتعلم حل المعادلات الخطية، ثم تكتشف لاحقًا بأنها بالكاد توجد في الطبيعة. إن الرياضيات لن تمنحك جوابًا بسيطًا مهما ابتهجتَ لأنك تعرف بأن 2 و 2 يساويان أربعة. 

لهذا السبب، عزيزي الكون، أعزائي البشر، أمي الشجرة، إخوتي السحالي وقنافذ البحر.. نحتاج إلى الاستعارات. 

الاستعارات ليست شيئًا دخيلًا على العالم، إنها من صُلبِ طبيعته. 

إخفاء المعاني، تحويلها من صورة إلى أخرى، اللعب معها، ضغطها في حزمة من الكلمات، ملء جسدها بالأشواك، منحها القدرة على التلون كجذعٍ داكن، أو عشبة حتى. ضخ فائض الطاقة في صورةٍ بصرية لحقيقة حدسية، أن يتحول القلب إلى ذئب، والقمر إلى عاشق وحيد، والدمع إلى زجاجٍ مكسور، والدهشة إلى طفلةٍ بشعرٍ منكوش.

إن فراغ سنتمترات قليلةٍ في ياقة رجلٍ حزين تفضي عن حزنه بشكلٍ أبلغ مما تفعله القواميس.

نحن نلجأ إلى الاستعارات لأن الحقيقة لا تُحتمل، واللغة لا تكفي. لو أردنا أن نكتب ألمنا كما هو، لاكتفينا بذلك الجؤار الحيوانيّ الذي نطلقه في الليل. لا أحد يحتمل هذا الصوت، لكن الشعر يجعلك ألمك محتملًا، وجميلًا حتى. 

لو أردنا أن نكتب العشق، لانتهينا مقيدين على وتدٍ بين النيران كالحلاج، فاللغة ليست أهلًا لاستيعاب الحقيقة، والناس لا يريدون الحقائق مقذوفة في وجوههم أيضًا. يجب أن تقاوم النظر إلى عيني ميدوزا فلم يخلق أينا لهذا. 

وبالمثل، كان على امرأة لوط ألا تنظر وراءها كيلا تتحول إلى عامودٍ من الملح. وكان من البديهي أن يتصدع الجبل لما تجلى الله له، ولا يمكن لمن أدرك الحقيقة إلا أن يرتجف تحت الأغطية ويصيح "زمّلوني". 

يقول لو كليزيو: "إن الكاتب صانع أمثال، عالمه لا يولد من وهم الحقيقة، ولكن من حقيقة التخيّل". 

نحن لم نخلق لكي نسلك طريقًا مباشرًا إلى المعنى. نحن خلقنا لكي نلعب معه لعبة الغميضة. نغلق أعيننا ونعدّ إلى العشرة ثم نخرج إلى العالم، نتفحص الأغصان، والأعشاب، وأفراس البحر، والمحار. 

نحن خلقنا لكي نرقص مع المعنى؛ نقترب منه خطوة، يبتعد عنا اثنتين. نظن أننا فهمنا، ثم نسقط في الظلام. نتحسس العتمة بأيادينا، نرى أنفسنا نخرج من الكهف، تسطع الشمس من فوقنا، دون أن نستطيع أن نراها. 

الاستعارة ليست اختراعا أدبيا حقا، إنها روح الطبيعة.