كبديل لاتفاقية منطقة
التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، تفرض إدارة الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب، اتفاقية "أوسمكا" (USMCA)؛ اتفاقية جديدة تتمحوّر حول الانسجام مع الحمائية
الاقتصادية التي يُريدها ترامب منذ توليه للرئاسة في الولايات المتحدة. هذه الحمائية التي لم يسلم منها حتى الجيران، أصبحت المعلم الأساسي لإدارة ترامب، فكيف يمكن تقييم "أوسمكا" في إطار مبادئ الاقتصاد الدولي؟
لقد جاءت اتفاقية "أوسمكا" لإغلاق الأبواب التجارية جزئياً أمام سلع كندا والمكسيك، لا سيّما الألمنيوم والفولاذ، حيث اضطرت إدارة ترامب لاستثناء كندا والمكسيك من قرارات رفع الرسوم الجمركية على واردات الألمنيوم والفولاذ من الخارج لحماية الاقتصاد الوطني، وذلك عملاً باتفاقية "نافتا" التي تتضمن مبادئ التجارة الحرة المُطلقة.
إن عجز إدارة ترامب عن التعامل مع كندا والمكسيك وفقاً لرؤيتها من الحمائية الاقتصادية، أدى إلى الدخول في تفاوضٍ معهما من أجل صياغة اتفاقية جديدة تُهدد موقع واشنطن في الساحة الدولية، من ناحية تسنمها قمة التبادل التجاري الحر.
ولعل أبرز الاختلافات بين "نافتا" و"أوسمكا" تكّمن في المُعاملات المُتعلقة بقطاعي المركبات والألبان، وبراءات الاختراع، ومدة الاتفاقية.
تؤثر "أوسمكا" في قطاع المركبات لحدٍ كبير، حيث فرضت مُعدلات عالية من الرسوم الجمركية والضرائب الاستهلاكية. وبحسب مواد الاتفاقية ذات العلاقة، فإنه يتم تبادل المركبات بين دول أمريكا الشمالية بضريبة صفرية، بشرط إنتاج 75 في المئة من قطع هذه المركبات داخل القارة، أي أنه بطبيعة الحالة يجب أن يتم الاعتماد على صناعات واشنطن إلى حدٍ كبير. وهذا ما يؤثر سلباً على مصانع تجميع السيارات في المكسيك تحديداً، حيث أن المكسيك تستورد قطع المركبات من الصين واليابان وكوريا الجنوبية، بينما كانت "نافتا" تشترط مُعدل 62.5 في المئة من قطع المركبات، لجعل الرسوم الجمركية صفرية، وهذا ما كان يمكّن المكسيك من توفير مُعدل جيد من القطع الرخيصة من دول شرق آسيا.
وتزيد "أوسمكا" من صعوبة الأمر على المكسيك تحديداً، كونها تفرض حدا معينا من الأجور للعاملين، حيث تفرض أجرة 16 دولارا للساعة كحد أدنى مقابل 40 إلى 45 ساعة من العمل، للاستفادة من صفرية الرسوم الجمركية.
وبطبيعة الحال لا يضر هذا الأمر بالمكسيك فقط، بل بأسعار المركبات في دول أمريكا الشمالية، وهذا ما يُخفض قيمة الطلب على قطاع المركبات.
أما الاختلاف الثاني، فيتعلق بمنتجات الألبان، حيث تُفرض رسوم جمركية عالية على هذه المنتجات، لحماية الولايات الأمريكية الزراعية تحديداً.
وحول الاختلاف الثالث، فإنه يتمحوّر حول براءة الاختراع وحقوق النشر، حيث سعت واشنطن لفرض قواعد صارمة للحيلولة دون سرقة براءات الاختراع وحقوق النشر الأمريكية من قبل شركات كندية ومكسيكية؛ تبيعها في نهاية المطاف لشركات صينية.
أخيراً، يتعلق الاختلاف الرابع بمدة الاتفاقية، حيث أن "أوسمكا"، على العكس من "نافتا"، ليست مفتوحة المدة، بل محددة بست سنوات، تتم بعدها إعادة تقييمها من قبل دول القارة، وتغيير بعض موادها حسب التفاوض والتوافق، فيما يتم إلغاؤها بالكامل بعد 16 عاماً، لتتم صياغة اتفاقية أخرى خاصة بالتجارة بين دول القارة.
دوافع الإدارة الأمريكية لهذه الإجراءات:
"أمريكا أولاً"؛ بهذا الشعار انطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في حملته الانتخابية، ويسير اليوم صادقاً لهذه الوعود التي قُطعت بدوافع فردية وقومية ودولية.
على صعيد فردي، يؤمن الرئيس ترامب باستنزاف النظام العالمي الواقع تحت هيمنة بلاده، لقدراتها بلا عائد! لذا يرغب الرئيس ترامب في الحفاظ على الدور القيادي لواشنطن في الساحة الدولية، ولكن بأقل التكاليف المالية والعسكرية والبشرية، ما يأخذه نحو إجراء تغييرات جذرية في بنية النظام العالمي؛ ويُذكرنا بمنطق رجل الأعمال الذي عادةً ما يتركّز عليه محللون منذ قدوم الرئيس ترامب للحكم.
في السياق ذاته، يرى ترامب أن المصلحة الأمريكية الداخلية أوجب من السياسة الخارجية، على نحو يعكس طمأنينة الرئيس ترامب للانعزالية الأمريكية التي كانت قائمةً قبل الحربين العالمية الأولى والثانية، فهو يرى أن كثير من الدول، لا سيّما دول أمريكا الشمالية وأوروبا، تحقق مصالحها من خلال الاعتماد الأحادي على واشنطن، وليس وفقاً لمبدأ الاعتمادية التكاملية معها. ويشمل ذلك المصلحة الاقتصادية على وجه التحديد، لذلك يُطبق الحمائية الاقتصادية التي يرى فيها ضرورة لحماية الدورة الاقتصادية المحلية، من خلال رفع معدلات الرسوم والضرائب الجمركية، وتقييد حصص الاستيراد الخارجي لأقل مستوى، وغيرها من الإجراءات البائنة.
وفي الإطار ذاته، يؤمن ترامب، وبعض أعضاء إدارته الراحلين والباقين، إيماناً مُطلقاً بالفكر الواقعي الأمني البراغماتي المُستند إلى مبدأ عدم الاعتبار للمبادئ الليبرالية أو الديمقراطية؛ وإنما الميل إلى التحرك المصالح البحت الذي يخدم مصالح "أمريكا أولاً". وهنا تغيير مواد اتفاقية "نافتا" ليس الإجراء الأول الذي يعكس ذلك، بل سبقها كثير من الإجراءات مثل الانسحاب من اتفاقيتي باريس للمناخ والهادئ للتجارة الحرة، ورفع الدعم "اليونسكو"، وغيرها.
أخيراً، يعتقد الرئيس ترامب بصراعية العالم، بمعنى لا يقتنع بفكرة تعاون القارة الواحدة أو القطب الواحد، وهذا ما يعكس تحركه الخشن ضد الحليف قبل العدو.
على الصعيد القومي، ينظر الحزب المُحافظ لفترة حكم الرئيس الديمقراطي، باراك أوباما، بمثابة الكارثة على المصلحة الأمريكية، وبالأخص في ما يتعلق بالمصلحة الاقتصادية. فبحسب توجه النظرة القومية للحزب المحافظ، في فترة حكم الرئيس أوباما، صعد نجم شرق آسيا الاقتصادي على حساب الصناعات الأمريكية، وتم توقيع عدة اتفاقية زادت الآثار على الاقتصاد الأمريكي، كاتفاقيتي الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر الهادئ وباريس للمناخ. وتزيد حساسية وضرورة هذا التحرك عن الحزب المُحافظ، انطلاقاً من حصوله على أغلب أصواته من "ولايات الحزام الصدئ" التي تأثرت سلباً نتيجة إغلاق عدد كبير من المصانع أبوابها أمام سكانها، وانتقالها إلى أراضي دول تُطبق سياسات "القاع" فيما يتعلق بمعايير المناخ وأجور العمال، وغيرها.
على الصعيد الدولي، يتعلق الأمر بمعايير نظام الاقتصاد العالمي الذي تُديره مُنظمة التجارة العالمية، حيث ترى هذه إدارة ترامب إخفاق منظمة التجارة في إدارة هذا النظام، فهي من جهةٍ تدعو لتطبيق الحرية التجارية، لكن من ناحية أخرى تفشل في ضبط إجراءات الدول التي تضر بالمصلحة الأمريكية. والمقصود هنا تحديداً الصين التي استفادت كثيراً من انضمامها لمُنظمة التجارة العالمية، لكنها لم تلتزم بضوابطها المُتعلقة ببراءات الاختراع، وأجور العمال، ومعدلات الضرائب والجمارك، والمضاربة التجارية، وغيرها، الأمر الذي سبب "الصدمة الصينية" للاقتصاد الأمريكي؛ تلك الصدمة التي تعني منافسة السلع الصينية لنظيرتها الأمريكية في الداخل والخارج، ما أدى لإغلاق عدد كبير من المصانع الأمريكي، ودفع عدداً من الدول، كالمكسيك مثلاً، نحو التعاون الاقتصادي الوثيق مع الصين، ما زاد من تأثير ذلك على الاقتصاد الأمريكي وسبب له صدمة سببها الصين.
إذاً، يبدو أن الحرب التجارية بين بكين وواشنطن لعبت دوراً جزئياً في إلغاء واشنطن مبادئ "نافتا" أمام المكسيك على وجه الخصوص.
في الختام، لا تعكس إجراءات الحرب الترامبية الاقتصادية سوى مسارات لتوجه العالم نحو الحمائية الاقتصادية التي ستؤدي إلى تراجع حجم التبادل التجاري المتبادل، وبالتالي العودة إلى التنافس العالمي، السياسي والاقتصادي، المحتدم الذي سبق فترة الحرب العالم الأولى.