انتهت "قمة كوالامبور" لتبدأ التحديات الكبرى التي حتماً سوف تواجهها، بل انها طفت على السطح قبل أن تبدأ، في محاولات حثيثة وخسيسة وخبيثة، عملت على عرقلتها وإفشالها، ولقد تعرضنا لها في مقالنا السابق، ولكنها في النهاية عُقدت، وبقي السؤال: هل ستسمح القوى العظمي في العالم، للدول الإسلامية بتشكيل تحالفاً إسلامياً دولياً للنهوض بالعالم الإسلامي، ويصبح نداً لها في رسم الاستراتيجيات العالمية، وصناعة القرارات الدولية التي تتحكم في دول العالم؟!
الإجابة معروفة لدى الجميع، وقد عبّر عنها رئيس الوزراء الماليزي "
مهاتير محمد" في خطابه في ختام القمة قائلاً: "قد نتعرض للحصار مثلما على إيران وقطر في عالم تفرض فيه دول إجراءات وقرارات أحادية عقابية، وهذا ما يدعونا إلى تحقيق الاعتماد على الذات".
ولا أخفي عليكم سراً، أن طرح مثل هذا السؤال يثير حفيظتى ويستفز مشاعري، وأستشيط له غضباً، فكيف وصل بنا الحال لهذه الدرجة من الهوان، الذي أصبحنا فيه نخشى من مجرد فكرة لمّ أشلاء أمتنا الإسلامية المتناثرة في كل مكان، وإعادة إحيائها من جديد، لتنهض وتواكب سائر الأمم والتي للأسف كانت لاحقة لها؟!
مَن الذي أوصل خير أمة أخرجت للناس لهذا الدرك الأسفل والدنية الذي تخشى فيه من عقوبات، وكيف جرُأت تلك الدول عليها، وهي التي كانت في الماضي البعيد إبان الخلافة العثمانية والدولة الإسلامية القوية تخشى من مجرد عبور سفينة تابعة لها في البحر المتوسط وتدق لها أجراس الكنائس تحية لها؟!
للأسف الذي أوصلها لهذا الدرك الأسفل هم أبناء هذه الأمة ذاتها، الذين يستقوون بأعدائها لمحاربة أي صحوة إسلامية، تحاول أن تخرجها من الظلمات إلى النور، وينعتونها بالإرهاب!! ولقد عبر عنها الرئيس التركي "رجب طيب
أردوغان" حينما صرح في ختام القمة بأن هناك دولاً عربية تحارب القمة أكثر من الدول الغربية، ولقد صدق في ما قاله، فنجد مثلاً الكيان الصهيوني يعرب عن قلقه من "قمة كوالامبور"، بينما عملت دولتا السعودية و"المؤامرات العبرية" على عرقلتها وإفشالها ومنع الدول من الحضور بالتهديد والوعيد، كما حدث مع باكستان، أو بإغراء المال والرشى على الدول، ولكن هناك دولاً لم تقبل أن تُشترى بالمال من بني سلمان وزايد، كالصومال رغم حالتها الإقتصادية الصعبة واحتياجها للمساعدات، والتي لم تقدم هاتان الدولتان لها أي مساعدات من ذي قبل ولكن الآن تعرضا عليها المال، ولأن رئيسها لديه مبدأ، لا يقبل الضيم ولا يعطي الدنية من دينه ووطنه، فقد رفض هذه الرشوة، وحضر القمة، وكما قال الرئيس أردوغان، المسألة في النهاية مسألة مبدأ..
إن التحدي الأكبر الذي يواجه هذا الكيان الإسلامي الجديد الذي تتطلع إليه جميع الشعوب الإسلامية، يأتي من وكلاء الغرب في المنطقة، حكام الدول العربية، الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على شؤون المسلمين وحماة للإسلام، وهم من ألد أعدائه، ويحيكون المؤامرات ضد الأمة الإسلامية. إن دولتي السعودية و"المؤامرات العبرية" تسيران في الطريق العكسي لنهضة الأمة الإسلامية بأنظمتهما المتصهينة، فهما الخنجر الصهيوني الذي يطعن الأمة في ظهرها، وأيديهما ملوثتان بدماء المسلمين في كل مكان، في اليمن وسوريا والعراق وليبيا ومصر، وما من بلد عربي مشتعل في المنطقة إلا وكانتا هما وقوده!
تلك الدول لن تسمح بسحب البساط من تحت قدميها، ولن تسمح بالسيادة والاستقلالية التي يسعى زعماء القمة لتحقيقها في العالم الإسلامي. فأول أهداف القمة أن يصبح للمسلمين زعامة، وهي أُمنية طال شوق الشعوب الإسلامية لها، لما تراه من تراخ وترهل الأمة، وما تراه من تآمر حكامها عليها. والسعودية بنظامها المتصهين، استعدت الشعوب العربية بدعمها للثورات المضادة، ودعمها للطغاة المستبدين بمسانداتها للأنظمة الدكتاتورية المعادية لشعوبها..
لقد فقدت السعودية أيضا تعاطف الشارع الإسلامي، لابتعادها عن أوجاع المسلمين ومظلوميتهم في العالم أجمع، ولتبعيتها الكاملة للاستعمار الغربي، ولإغداقها الأموال الطائلة من أموال المسلمين عليهم ليقتلوهم بها، بينما ملايين المسلمين في العراء يموتون جوعاً وعطشاً، كما أن ولاءها التام للصهاينة أحدث فجوة عميقة بينها وبين الشعوب.
وكذلك حليفتها الإمارات ومَن في ركابهما يسيرون على نفس الدرب في التحالف مع العدو الصهيوني والمجاهرة بالتطبيع، مما استحقوا كراهية الشعوب لهم وإسقاط الزعامة عنهم.
السعوية ترى أنها الأحق بزعامة العالم الإسلامي، مستغلة وجود الحرمين الشريفين على أرضها، ولكن منذ متى كان التاريخ والجغرافية هما اللذان يحددان الزعامة؟ وإن كنت لا أنكر دورهما في المساهمة بذلك، شرط أن تكون قيادة رشيدة تعمل لصالح الأمة وليس لصالح زعامتها وعرشها الذي هوى! وهي تخشى من
تركيا، وفي ذاكرتها الحقبة العثمانية بكل قوتها وهيمنتها على العالم الإسلامي. وتركيا اليوم العائدة بقوة إلى العالم الإسلامي هي بقايا تلك الحقبة العطرة، عائدة كقوة إقليمية عصرية، ديمقراطية، دولة قوية إقتصادياً وعسكرياً، فضلاً عن أنها باتت أقرب للشعوب الإسلامية التي ترى فيها الأمل في نهضة الأمة من جديد.
ومن هنا كان عداء السعودية لتركيا خوفاً من أن تنزع منها تلك الزعامة الوهمية، ولذلك فإن الصراع بينهما شديد ولم يعد خافياً على أحد. وهذا الصراع سيشتد عضده أكثر في كل المناطق المشتعلة في المنطقة. ولعل ما شهدته سوريا وليبيا مؤخراً من دخول تركي عسكري، يؤكد أن الحرب على ريادة العالم الإسلامي بين السعودية وتركيا بدأت تأخذ منحى فرض معادلات جديدة بالقوة، ولسوف يحدد هذا الصراع مستقبل العالمين العربي والإسلامي، والذي يبدو في الأفق أنه يميل لصالح تركيا..
مَن يريد أن يكون زعيماً للعالم الإسلامي عليه أن يكون قدوة، ومركز إشعاع في كل المجالات: التنمية، والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وإقامة الحكم الرشيد، والعمل بجدية من أجل نبذ الخلاف بين المسلمين وليس لإشعاله وإثارة الفتنة والعداء بينهم.
الزعامة تتطلب الدفاع عن قضايا المسلمين العادلة في شتى المحافل الدولية، وهذا ما تفتقده السعودية وحلفاؤها من الحكام العرب، وهو ما وجدته الشعوب الإسلامية في زعماء "قمة كوالامبور". نعم وجدت فيهم بذرة الأمل التي يمكن أن تثمر وتطرح شجرة تستظل بها كل الدول الإسلامية ولو بعد حين.
الاتحاد الأوروبي بدأ بثلاثة دول وبعد خمسين عاماً، أزالوا الأسلاك الشائكة التي تفصل 28 دولة عن بعضها البعض ففتحت الحدود بينهم، وأصبحوا كياناً واحداً، رغم كل الاختلافات الأيديولوجية والعرقية والدينية بينهم، ولكنهم نجحوا في أن يكونوا أمة واحدة، تشد أزر بعضها البعض، وتتعاون فيما بينها في جميع المجالات بعملة واحدة، كما نسقوا المواقف السياسية إزاء القضايا المطروحة على الساحة الدولية معا، ليكونوا صوتاً واحداً في المحافل الدولية.
وهكذا أصبح "الاتحاد الأوروبي" كياناً ضخماً يخشاه العالم ويعمل له ألف حساب. ونحن أيضا نستطيع فعل ذلك لو توفرت الإرادة الحرة الصلبة العنيدة، والعزيمة القوية لدى القادة، لتستطيع الأمة أن تواجه قوى الشر التي تتربص بها وتتصدى لها بقوة..
ولهذا مطلوب من زعماء "قمة كوالامبور" أن يعملوا فوراً على تحقيق أحد أهدافها بسرعة كي تظل جذوة الأمل مشتعلة في نفوس الشعوب الإسلامية، وليكن مثلاً إطفاء أحد الحرائق المشتعلة بين المسلمين بعضهم ببعض في تلك المناطق الساخنة، مثلاً في اليمن أو ليبيا أو سوريا، واتخاذ موقف صارم تجاه الصين والهند وبورما، إزاء ما ترتكبه من جرائم في حق مواطنيهم المسلمين، ولا يكون مجرد بيانات شجب وإدانة، فلقد شبعت الشعوب من تلك البيانات، لا بد أن يكون لها موقف عملى ومختلف عما تفعله منظمة "التعاون الإسلامي" التي أسقطتها الشعوب من ذاكرتها..
أما باقى أهداف القمة والتي تناولناها في المقال السابق، وخاصة نظام المقايضة في التبادل التجاري بين الدول الثلاث (تركيا وماليزيا وإيران)، قد يستغرق وقتاً لتحقيقها، ولكن بالجد والعمل المخلص الدؤوب سوف يتحقق بإذن الله.. "وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون"..