هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هاجس وسواسي يسمَّى الشواش
"للمقهى عليَّ مفعولُ السِّحر وكأنني أُولَدُ هناك إنسانًا مِن جديدٍ، لوهلةٍ أنسى البحثَ والرياضياتِ وابنَيَّ و(ميري) والعالَم الـذي علـى الحافة والسرطانَ والموت. أضحك كطفلٍ وأقهقه كعربيد، أعيش الحياة بـوعي بـدائي، لا يهمني إلا أن أكسب دورًا في الطاولة وأخادعهم في آخر، أنهزم لهـم، أبتدع النكات والقفشات، جربتُ تدخين النارجيلة بكـل أنواعهـا، القص والسلوم والفواكه، التلذذ بالدخان وبمفعوله علـى الـدماغ ونفثه ليتشكل في حلقاتٍ ساحرةٍ مِن شواشٍ قبل أن يتبدد في الفضاء، لكنني مِن آنٍ لآخَرَ دُونَ أن أدري يَرُدُّني فكري إلى وعيـي كعـالِمِ رياضياتٍ وأبٍ فاشلٍ وحبيبٍ مهجور وميتٍ مرتقب، يبتلعُ الـصمتُ هَذَري ويُقَطِّبُ جبيني وأُعاقَبُ بضِعفِ الهَمِّ جزاءً وفاقًا لدقائقَ سَرَقتها مِنّي. الطاولة والزهر والأرقام التي تطرحها وحركة القواشيط، سلـسلة من الاحتمالات وشواشٌ وفوضى تامة، عوالمُ تَتوالَدُ وتَفترقُ مع كل رمية، آلاف الأكوان تنشأ وتفنى وتزول وتبقى، قوانينُ بسيطةٌ مُختبئـةٌ تحت السطح، كذلك البشر والحكايات".
في هذا المقطع من الفصل الثالث من فصول روايته السِّتَّة، يرسُمُ (أحمد سمير سعد) تَجَلِّيًا من تجلِّياتِ الحركةِ العابثة من حركات سمفونيّتِه السَّرديَّة القصيرة (شَواش). نحن أمامَ عالِم رياضياتٍ مصريٍّ يعيش في أمريكا، بزغ نجمُه هناك وأصبح ملء السمع والبصر، وتزوّج أمريكيةً من أصلٍ سوريٍّ وأنجب منها وَلَدَيه (مصطفى) و(يوسف). ثُم أصيب بالليمفوما، وبعد جلسة علاج كيماوي واحدة قرر أن يعود إلى مصر. الرواية كلها بلسان البطل وأحداثها مرصودة مِن وجهة نظره، بعضها في زمن عودته إلى القاهرة وبعضها مَروِي في صورة ذكريات تتداخل مع اللحظة الراهنة، بدءًا من طفولته المبكرة ومرورًا بصِباه وشبابه في مصر ثُم سفره إلى أمريكا وانتهاءً بلحظة أن قرّرَ العودة، وهي ذكريات لا تتبع خطًّا زمنيًّا مُطَّرِد الحركة إلى الأمام، وإنما تتداعى في حريةٍ على ذهن الراوي البطل بلا نسَق واضح.
زوّدنا الكاتب بمقدمة من صفحة واحدة بعنوان (حكايتي مع الشواش)، أطلعَنا فيها على نتيجة بحثه عن أصل كلمة (شواش) في العربية، وكيف وجد أنها من كلام المُوَلَّدِين، وأصلها في جذر بعيد عنها هو (ه و ش)، وأخيرًا كيف أصبحت هي الترجمة المعتمدة لكلمة Chaos المستخدمة في اللغات الأوربية لتوصيف الاضطرابات غير المُسَيطَر عليها، والتي استُخدمت أخيرًا لتوصيف نظرية حديثة في الرياضيات والفيزياء تحاول دراسة الأنظمة التي تُبدي سلوكًا عشوائيًّا كحركة الموائع واقتصاد السوق والنظام الشمسي وغير ذلك.
وفي متن الرواية يخلو الراوي إلى نفسه بشكلٍ وسواسيٍّ متكرر ليُحَدِّثنا عن الفوضى الضاربة في العالَم والتي تحل تدريجيًا محلّ النظام بشكلٍ منذرٍ باقتراب نهاية العالَم، وفي خلال ذلك يذكر نظرية الشواش التي تعطي لكل حدَث عددًا لانهائيًا من الاحتمالات ممكنة الحدوث رغم ضآلتِها. يفعل الراوي ذلك وهو في المقهى، وهو يشاهد عربة الإسعاف تنقل المصابين في حريق بشقة في محيطه السكني، وهو يُجالس أصدقاءه، تقريبًا يفعل ذلك في كل المواقف.
المرَض والوعي.. الحضور الإلهي
لكنّ ألطف مرّة يُحدثنا فيها بحديث الشواش – وأعني بـ(لُطفها) استعصاءها على المباشَرة، وإشارتَها إلى الشواش من طرفٍ خفيّ - هي تلك المرّة التي يعقّب فيها على ذكرى بعيدة تعود إلى شبابه، حين خجل من مواجهة صديقه (حسين) بعد أن ألحقَ هذا الأخيرَ مجموعُه في الثانوية العامة بكلية الهندسة، بينما قَصُر مجموع الراوي عن إلحاقه بالهندسة فدخل كلية العلوم، ثم مرّ عامٌ وكان الراوي أول دفعته بينما رسب صديقه (حسين) في مادتين، ثم انتهى الأمر بالراوي مُعيدًا بقسم الرياضيات بينما صديقُه مهندس ميكانيكي في شركة محركات بالقطاع العام. هنا يتأمل الراوي حياتَه قائلاً:
"اليوم أملك رفاهية أن أقف، أرقب الطريق الذي مررت به، كيف تحركتُ كذرة غاز في كل اتجاه، اصطدمَت بكل شيء، بذرات مثلِها، بجدار الوعاء، بالأرض والنباتات والجوامد والأحياء، بدأَت في نقطـة ودون أن تعي صارت في نقطة أخرى، بعيدة كـل البعـد، بعـد أن جربَت آلاف المسارات المختلفة".
ما لا يخبرنا به المؤلف في مقدمته ولا في متن روايته أنّ أصل تسمية (الغاز Gas) بهذا الاسم يعود إلى الكيميائي الفلمنكي (يان باپتست ?ان هِلمُنت Jan Baptist Van Helmont) مكتشف ثاني أكسيد الكربون، حيث يخبرنا موقع (إتيمونلاين) بأنّ تلك الكلمة (gas) التي اختارها (?ان هِلمُنت) لوصف ثاني أكسيد الكربون تبدو تدوينًا بلُغته الهولندية لكلمة chaos اليونانية التي تُنطَق (خاوس)، لاسيما أن الحرف G في الهولندية يُنطَق خاءً هو الآخَر.
والشاهد هنا أن الراوي يصف ما استدبرَه مِن حياته بأنه شواشٌ وفوضى وغابة من الاحتمالات التي لا تنبئ مقدماتها بنهاياتها بشكل مباشِر. وهذا الوصف الذي تقرره الفقرة السابقة يبدو في سياق الرواية ثمرةَ (وعي جديد) تكوّن لدى الراوي مع معرفته بمرضه الخطير، كما يقرر في الفصل الثاني:
"حياتي مخادعة تماما. مملوءة بالأشخاص، الأحداث، الأفعال، لكنها خالية من كل معنى، فقط مع مَرَضِي بِتُّ واعيًا بي، أراقبُني عن كثب".
هذا الوعي الجديد بنفسِه - والذي يشير إليه في مواضع مختلفة من سرديّتِه – يتجاوب مع وعي جديد وغريب بالعالَم من حولِه. ففي هذه الرواية نصطدم بشخصيات كثيرة جدًّا لا يجمع بينها إلا معرفة الراوي بها، فلدينا عشيقتُه (ميري) عالِمة الرياضيات التي عرفَها وهو مازال طالب دكتوراه ولم تتزوج ثم أصبحَت تعمل مع جهات سيادية أمريكية، ولدينا (حسين) صديق عُمره المهندس الذي أصبح يعيش حياة الموظفين بلا بصمة شخصية أو طموح، ولدينا (محمود نصّار) الأكاديمي الرياضياتي الذي يصغرُه بعامَين، والذي يسخر من المجتمع العلمي ومن كل شيءٍ حتى إنه ليُسمّي نفسَه (بالونة هليوم) لا تجذبها الأرض ولا تحتفظ بها السماء، وغير هؤلاء كثيرون. وهذه الشخصيات تقودُنا مع الراوي إلى عوالمِها الخاصة المضطربة وحكاياتها الجانبية وحبكاتِها الفرعية الموّارَة بالأحداث، لكنّ هذه الأحداثَ تدور على خلفيّة هادئة رتيبة سِرّيّة. وتتمثل هذه الخلفية في المشروع العلمي الخاص للراوي، وهو برنامجه الحاسوبي الذي يحاول به أن يتنبأ بمصير العالَم!
ما نعرفه بالتدريج من أحاديث الراوي لنا هو أنه قد عاد إلى مصر مجذوبًا بجنونٍ غريبٍ يتعلق بهذا المشروع. لقد وظّف كل معارفه الرياضية في تحويل مُعطَيات الحياة اليومية -كما تصلُ إليه في الشارع وعبر وسائل الإعلام- إلى أرقامٍ ومنحنياتٍ ومصفوفاتٍ يغذّي بها حاسوبَه ليعرف في النهاية مصير العالَم. يعود الراوي إلى نفسِه ليسفّه مشروعَه من حينٍ إلى آخَر خلال الرواية، محتجًّا على نفسه بأنه وإن كان عالِمًا في الرياضيات لا يعرف إلا أقلَّ القليل عن خبايا المجتمع، ومِن ثَمَّ فمشروعه محضُ جنون. لكنه يستمر في جنونه رغم ذلك، ويصف موقفَه وهو يحيطُ نفسَه بكل هذه المعطيات مفتوحَ العينين والعقل أربعًا وعشرين ساعةً في اليوم:
"أن تقف على حافة الجنون، تراقب كل شيء كإلـهٍ عـارف، لا يفعل شيئًا، ترى الشمس وهي تحترق، توشك أن تنكمش على نفسها وتومض الوميض الأخير قبل أن تتقزم وتموت، الأرض وهـي تغـادر مدارها، ترتمي في الفضاء والمجهول، بلايين بلايين الأشياء تبزغ وتفنى".
هذا التشبيه الصريح لنفسِه بالإله المُحيط علمًا بكل شيءٍ لكنه لا يتدخّل في أحداثِ العالَم، يظلّ مُلِحًّا عليه وملازمًا له إيجابًا وسلبًا من البداية إلى النهاية، فهو حتى حين يتشكك في مقدرته يقول: "معادلاتي شديدة الحساسية لمعلوماتها البدئية، معلوماتي غير دقيقة في مجملـها، المعلومـات الـتي بإمكانها التنبؤ تحتاج لإله مدرك لكل الكليات والجزئيات، يملك أرقامًا دقيقة لكسور عشرية لا نهائية، وبرنامج لا يخطئ ولا يعرف تقريـب الأرقام".
المهمّ أنّ هذا الوعي الجديد الذي ربما جاز لنا أن نقول إنه يحاول الاقتراب من الوعي الإلهيّ أو يتشبّه به أو يرتسِم على صفحات الرواية تجلّيًا له، هذا الوعي الذي جلبَته الإصابة بالمرض الخطير القاتل يتضافر مع العديد من الإشارات والتناصّات الإسلامية المتناثرة في الرواية – مِن قبيل "العجائز والكهول يسندون ظهورَهم الخائرة إلى حوائط تريد أن تنقضّ، ينتظرون نفخة رحيمة من إسرافيل" متناصًّا مع آية سورة الكهف "فانطلقا حتى إذا أتيَا أهل قريةٍ استطعما أهلها فأبَوا أن يضيِّفُوهما فوجَدا فيها جِدارًا يُريدُ أن ينقَضَّ فأقامَه"، وكذلك "رجال مطافئ يطيرون، يبارزون إله النار بالسيوف والمعاصي قبل أن يخرُّوا له ساجِدِين مستسلِمِين" فهو يتناصّ مع حديثٍ منتشِرٍ في المواعظ الإسلامية منسوبٍ إلى الأحاديث القدسية وفيه صُورة (مبارزة الله بالمعاصي)، وهو ضعيفٌ ليس له أصل- نقول إنّ هذا الوعي الجديد يتضافر مع أمثال هذه التناصّات ليُحيلَنا إلى مأثور إسلامي آخر يتجاوب مع فكرة الحضور الإلهيِّ أثناء المرض، وهو ذلك الحديث القدسي الوارد في صحيح مُسلم، حيث يرويه أبو هُريرة: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟". والشاهد أنّ ظواهر النص الروائي الذي بين أيدينا تُحيلُنا إلى فكرة الحضور الإلهي حالَ مرض الإنسان.
لاعِب النّرد وقارئ الزايرجة
في هذه الرواية يبدو السرطان (الليمفوما) انعكاسًا في جسَد الرّاوي للشَّواش الذي يضرب العالَم ويَحكمه. وإذا عُدنا إلى الفقرة التي صدّرنا بها هذه القراءة السريعة، ووضعناها إلى جِوار تلك المقتطفات التي ترسّخ فكرة الوعي الإلهي الذي يرسمه الراوي لنفسِه، وإلى جوار موضوع الرواية الخارج من مُتون فلسفة العِلم – ولاسيّما فلسفة الكَمّ (الكوانتم) – لتَمكّنّا من رؤية مشهد الراوي وهو يلعب الطاولة على المقهى مستمتعًا بنفث دخان النارجيلة وبحركة القواشيط التي يحكمُها شواشُ الاحتمالات باعتباره إحالةً إلى مقولة (أينشتاين) الشهيرة التي اعترضَ بها على نظرية الكَمّ التي كان رائدُها (ماكس پلانك): "إن الله لا يلعب النرد!"
إن هذه الفقرة تختزن حكمة الرواية بشكل ما. فالراوي المهموم من بداية الرواية بمسألة تقاطع الإيمان والعلم يجلس هنا متألهًا، بوعي متعالٍ على وعي من حوله، وهو يعرف جيدًا مآل حركة القواشيط بحكم معرفته العميقة بالرياضيات التي يسميها كما تعارفَ المجتمع العلمي على تسميتها (لغة الرَّب).
وهكذا يرسم صورةً للإله الذي يرمي النرد بالفعل لكنه يعرف مآل كل حركة من حركاته. إنه في قرارة نفسِه مؤمن تمامًا بأن الشواش الظاهر ما هو إلا قوانين لطيفة خفية تعمل بطريقة اللُّطف الخفي.
والوجه الآخَر لتلك الحركة العابثة التي وَسَمْنا بها هذه الفقرة في المقدمة يتمثل في إحدى الشخصيات الثانوية في الرواية، وهي شخصية (محروس) موظف السجل المدني المسئول عن تقييد المواليد والوفيات، وهو صديق (حسين) الذي أصبح الراوي يجالسُه ويلعب معه الطاولة في المقهى. (محروس) يقرأ في علم (الزايرجه) وهو فرع من المعارف السحرية التراثية المهتمة بالقِيَم العددية للحروف ومعرفة الأقدار المعقودة على أفلاك النُّجوم، وهو يستغل معرفته بالزايرجه في إقناع الآباء الذين يترددون على السِّجِلّ المدني لتقييد مواليدِهم باختيار أسماء معينة لأبنائهم من المواليد الجُدُد. هكذا يقف (محروس) كمعادل موضوعي للرياضيات اللامعقولة، في مقابل صرامة رياضيّات الرّاوي التي تحتلّ قلبَ الممارسة العقلية. يشكو (محروس) إلى الراوي تغيُّر أحوال الناس وعدم اعتدادِهم بنصائحه في تسمية المواليد، ويؤرقه هذا الأمر كثيرًا، كما لو كان الشواش لم يَكتَفِ بضرب عالَم العقل، وإنما تعدّاه إلى عالَم اللاعقل!
عالِم الرياضيات يُتِمّ رسالته
عَودًا إلى الخلفية البطيئة لأحداث الرواية المتلاطمة، ونعني بها البرنامج الرياضي التنبُّؤي الذي ابتكرَه الراوي، يخبرُنا الراوي بأنّ المُعطَيات التي زوّد بها برنامجَه افترقَت على سبعة نماذج رياضية، لكنها عادَت قُرب نهاية الرواية لتلتئم وتبشّر بنفس النهاية الكارثية للعالَم: "الأرقام على تعقيدها تتبع ذات النمط، في إمكاني التعرف عليـه بنظرة سريعة، للأرقام نفس نمط أرقام النسخة الأولى للبرنامج ترتيبًا، بدت كأنها تَهوِي، كأن هناك فجوة انفتحت لتبتلع العالم وكل شـيء، أرقام تبشر بمُواتٍ ومآسٍ في أعقاب مآسٍ، كأنه انهيار أرضي يبتلع كل بَرِّ مصر، رجة عنيفة .. زلزال تتصدع له الجبال. تهبط السهول، كل شيء يغمره الماء.. يغرق، جبريل يرفع العالم على جناحه.. يصعد به ثم يتركه ليهوي".
يتزامن هذا التطور في برنامجه مع عودة السرطان ليهاجمَه من جديد وينتشر في جسده رغم التحسُّن الأوّلي مع العلاج الكيماوي. وتأتي النهاية بزحف برودة الموت على قلب الراوي لتقبضَه، فيموت الراوي الباحث عن المعنى في حياتِه، لكنّه يموت وقد أكمل رسالتَه وأخبرَنا بأمرَين مهمَّين:
- أولاً: حقيقة علاقة الله بالعالَم كما رآها من خلال نظرية الشواش:
"أرى انحرافات بسيطة تتراكم لتكون طوفانًا أو بَقًّا وجرادًا وماءً يستحيلُ دَمًا أو بشرًا ينسخطون قِرَدَةً وخنازيرَ، لا حاجةَ لمعجزاتٍ أو لهزّة عنيفة أو لتدخُّل مباشر لله، فقط قوانينُه تَعمل وتُراكِم الأخطاء لتكون ريحًا صرصرًا عاتيةً، أرضًا تنخسِف، بلادًا تُعَذَّب بالطاعون، سبعَ سنوات سمانٍ وأُخَرَياتٍ عِجاف."
هنا تكمن المعجزات وخوارق مألوفاتنا البشرية في قلب القانون الرياضي الذي بثّه الله في قلب العالَم، فعلاقة الله بالعالَم – تبعًا لهذه الرؤية – علاقةٌ لم يَفطِن لكُنهِها الفلاسفة القائلون بالخَلق بالفيض وعدم معرفة الله بالجزئيات من ناحيةٍ، كما لم يفطن لها أصحاب الطرف الآخَر من المتّصِل الفلسفي، القائلين بتدخُّل يَد الله بشكلٍ مباشِرٍ لمنع توقُّف دوران الأجرام السماوية (كما في نموذج صانع الساعات عند نيوتن). وإنما هي علاقة اللُّطف الخفيّ متمثّلاً في القوانين الرياضية الباقية بانحرافاتِها المحسوبة أزلا.
- ثانيًا: ما يتعيّن علينا فِعلُه إزاء هذا المصير الكارثي الوشيك الذي يتكفل به الشواش:
طالما أنّ الأمر –كما يقول الراوي– على هذه الشاكلة: "حالة طاغية من الفوضى والشواش، عندها تكفي خفقة زائدة من جناح فَراشة كي تُنهي العالَم أو تدفع الكون للتقلُّص، رصاصة طائشة كي تشعل حربًا أهلية، كلب ميت أو فأرة تتعسّر في الولادة كي يتغير مصيري."، فإنّ السلوك الأمثل أمامنا يتمثل في قولِه العابر:
"إطعام قطة جائعة قد يؤدي إلى تأجيل الطوفان".
هذه العبارة الأخيرة تكتنز في مضمونِها عددًا من التناصّات الإسلامية، فهي تُحيلُنا إلى الأحاديث التي تقُصُّ علينا حكاية المرأة التي دخلَت النارَ في هِرَّةٍ حبسَتها، والرَّجُل الذي دخلَ الجنة في كلبٍ سقاه، كما تُحيلنا من طرفٍ خفيٍّ إلى الحديث: "إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا" و"لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوَجهٍ طليق.". إنها جميعًا أمورٌ أقرب إلى خفق أجنحة الفَراشَة الذي تُحَدثنا عنه نظرية الشواش، لكننا لا ندري أية قوانين فيزيائية تحكمُها وأية انحرافات رياضية تترتب عليها وتجعلها طوق نجاةٍ لنا.