هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"والتَفتَ وراءه فإذا كوكبةٌ مِن الخيل المُطَهَّمة المُسَوَّمة تُقبِل مِن آخِر الجسر خلف سِترٍ مِن النَّقع مُنعَقِد العُباب، وهذا التُّراب الذي يثور ويتألّب حول الفرسان يرتفع تحت سنابكها ولا يكاد يهبط، في عقود مقببة متتالية بطيئة الاستقرار، كأنها بناء هَشٌّ وَطِيءٌ تتعاقَب قِبابُه، ورعيلُ الفرسان دائمًا يسبق القُبّة الأولى من هذا البناء البطيء الذي يلاحقهم من قريب".
هكذا يصف أستاذنا (إدوار الخراط) مرور فرسان المماليك بالشيخ (عبد الله بن
خلَف الدمياطي) أحد أبطال روايتِه (أضلاع الصحراء)، وذلك في فصلها الأول.
في مقاله المنشور على موقع (الكتابة) يوم 4 ديسمبر 2015 لتأبين (الخرّاط)
الذي رحل عن عالمنا في 1 ديسمبر 2015، يخبرنا الشاعر والكاتب السكندري (مهاب نصر)
بأنّ صاحب (أضلاع الصحراء) كتبها تحت ضغط أزمة مالية عصفت به ليدخل بها مسابقة
أدبية. والأكيد أنّ الرواية ممهورة بتاريخ إنجاز كتابتها في 30 ديسمبر 1959، ولم
تخضع للمطبعة إلا عام 1987.
هكذا تحُلّ في هذا الشهر الذكرى الرابعة لوفاة أديبنا الكبير، والذكرى الستُّون
لإنجازه هذه الرواية المبكرة في مشواره الأدبي.
تتناول الرواية أحداث الحملة الصليبية السابعة على مصر بقيادة لويس التاسع
ملك فرنسا، واستيلاءها على دمياط دون مقاومة في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب،
ثُمّ مقاومة المصريين ومناوشاتهم الحملة إلى أن أجلَوها مهزومةً عن مصر بقيادة سيف
الدين أقطاي وركن الدين بيبرس الأميرَين المملوكيَّين. وعلى لُحمةِ هذه الأحداث،
ينسج (الخرّاط) سَدَى روايته من مصائر متقاطعةٍ لأبطالٍ من المُهمَّشين الذين لم
يذكرهم التاريخ. فلدينا الراقصة المغنّية الغجرية (بهية) وزوجها الزمّار (يحيى)
وصبيّهما المهرّج (مسرور) ولدينا الشيخ (عبد الله بن خلَف الدمياطي) الدرويش الذي
يحلم بمجاورة جامع دمياط الكبير في طريق عودته إلى مسقط رأسه بعد أن قضى شطرًا من
عمره بالإسكندرية، والبدويُّ النبيل (أسامة الكناني) الذي أنقذ أقطاي من غارة
البدو وصحبَه إلى أن استُشهِدَ في معركة المنصورة قُربَ ختام الرواية، والفرّان
(مأمون) والفلاّح (حسن بن منصور) الذي يحضر خيمة الغجر ليشاهد بهية ويسمعها،
ولدينا أخيرًا ذلك الفارس الغريب المجهول الذي يتزَيّا بالسَّواد طيلةَ الوقت.
والحَقُّ أنه يَسهُل تصنيف الرواية ضمن أدَب الحرب، حيث إنه رغم إفراد
مؤلفِها بعض فصولها الخمسة والعشرين لتتبُّع حياة أبطاله بعيدًا عن ميدان القِتال،
إلاّ أنّ ما يؤلّف بين هؤلاء الأبطال هو سقوط دمياط الشهيدة ورغبةُ كُلٍّ منهم في
الثأر من الغاصِبين الفرِنج، إمّا لدِينه كما في حالة الشيخ عبد الله، وإما لوطنِه
كما في حالة الصبّاغ القبطي (جبره بن توفيلس) الدمياطي الجار القديم للشيخ عبد
الله، وإما لثأرٍ شخصيٍّ كما في حالة يحيى وبهية اللذَين اختطف الصليبيُّون
ولدَهما أمام أعينِهما قبل أن يلتقيا بالشيخ عبد الله. هذا فضلاً عمّا أنفقه
المؤلف من مشاهد في وصف القتال، سواءٌ في المعارك الكبرى أو في المناوشات التي
تسبقُها وتتلوها. ولا يملك المرء إلا أن يتذكّر – مع تاريخ إنجاز هذه الرواية –
روايةَ (السُّهول البِيض) لعبد الحميد جودة السحّار، التي تتناول مقاومة المصريين
للعدوان الثلاثي سنة 1956، وإن كانت الأخيرة أقلَّ إخلاصًا لمشاهد الحرب. إلاّ
أنَّ ملامح معينةً مثل الفارس المجهول المتحمس للدفاع عن دمياط – والذي لا نعرف
حقيقتَه إلى النهاية – تذكّرُنا مثلاً بشخصية (چانيت) الإنجليزية المتزوجة من
(توفيق) المصري في رواية (السحّار) والمتحمسة للقضية المصرية بدَورِها. في
الحالتين نحن أمام نموذج يشبه (تشي چي?ارا) من وِجهةٍ ما! إنه نموذج الغريب الذي
يرفض الطغيان والبغي والعدوان في أيِّ ركنٍ من الأرض ويتحمس للدفاع عن المهضومين
بدافع الإنسانية لا أكثر، وإن كان هذا الغريب يتبخر تماما في رواية الخراط كما لو
كان وجوده محض مصادفة.
* درس في الدِّقَّة
التاريخية والتملص من قبضة التاريخ!
والدِّقّة التي تحرّاها (الخرّاط) في إيراد أسماء الشخصيات المعروفة من
المعسكرين الصليبي والإسلامي ورسم ملامح أصحابها وطرائق سلوكِهم تستحق بأن تُدرَّس
نموذجًا في حَبك الرواية التاريخية، ومن الأمثلة البارزة على تلك الدِّقَّة ذلك
المشهد الذي يجتمع فيه (لويس التاسع) بقادَته وأمرائه ووضع الحملة متأزِّم في
دمياط تحت ضغط مناوشات المصريين. في هذا المشهد يشير (پيير دي بريتاني Pierre I de Bretagne) على الملِك
ومَن معه بالاتجاه إلى الإسكندرية للاستيلاء عليها والتزوُّد بالمؤن منها
باعتبارِها صيدًا سهلاً، بدلاً من الاتجاه مباشرةً إلى القاهرة عاصمة البلاد، وهو
يبسُط حُجَّته الاستراتيجية في هدوء يقترب من البرود، بينما يرُدّ الكونت (دارتوا Robert I D'Artois) في خطاب منفعل
يقطُر حماسةً وهياجًا وهو لا يقدّم أية حُجَّة ولا يعتمد في إقناعه أخاه الملِك
(لويس التاسع) وأمراءه بالاتجاه مباشَرةً إلى القاهرة إلا على الإهابة بعواطفهم،
حيث يقول: "هل ندور حول الحرب؟ لسنا نخافُ القِتال. سوف نشقُّ طريقَنا على
جثث هؤلاء الكُفّار." ومع ذلك فهو ينجح في إقناعهم ويأخذون بمشورتِه المفتقرة
إلى العقل، وهو ما تؤكده المرويّات التاريخية بالفعل.
كذلك في الفصل الثامن
عشر يرسم مشهدًا لنساء الحملة الفرنسيات وهن يقطعن شوارع دمياط: "بل يحاذرن
أشدَّ الحذَر من أن تنكشف كواحل سيقانهنّ في المشي أو الركوب، وإن كانت صدورهن
عارية تحت أنوار المشاعل المتراقصة، في فتحتها المربعة الموشّاة، عليها شيلان من
الصُّوف الناعم." هنا يرسم صورةً دقيقةً لمفهوم الحشمة الأوربي في ذلك العصر،
يبدو أنه استقاها من مراجع تاريخيّة دقيقة ولوحات تشكيلية حرص على مراجعَتها قبل
العُكوف على كتابة روايتِه.
اقرأ أيضا: قراءة في نص مسرحية (الأبواب المقفلة Huis Clos) لسارتر
لكننا نحاول جاهدين أن نعثر على أصل تاريخي للشيخ (عبد الله) فلا نجد إلاّ
أخاه الذي يتحدث عنه (عبد الله) إلى نفسِه قليلاً في الفصل الأول ويذكره باسمه
(شرف الدين عبد المؤمن بن خلَف الدمياطي)، وهو مُحَدِّثٌ مشهورٌ عند أهل الحديث
باسم (الحافظ الدمياطي)، أخذ الحديث عن الحافظ المنذري صاحب (الترغيب والترهيب)
وعن العِزّ بن عبد السلام، ومن تلاميذه المشهورين شمس الدين الذهبي وتقي الدين
السُّبكي وابنُ كثير. والحقيقة أنّ ميل (الخراط) عن المحدث المشهور المعاصِر
لأحداث الرواية إلى أخيه (عبد الله) الذي يُرَجَّح أنه من وحي خياله ربما يَشِي
بحرص أديبنا على تسليم دَفّة الأحداث للمهمَّشِين الذين لا ذِكر لهم. ومن ناحيةٍ
أخرى، ربما يشير هذا الميل إلى انتصارِه للرُّوحاني الصوفيّ – متمثلاً في الشيخ
عبد الله الدرويش – على الفقهي الأصولي متمثلاً في (الحافظ الدمياطي) الذي لم يُذكَر
في الرواية إلاّ مرّةً واحدة. وهذا الانتصار من جانب (الخرّاط) في تقديري هو ظِلٌّ
لانحيازه إلى المشترَك الإنساني/ الوطني الذي يجمع الفُرَقاء من مسلمين وأقباط في
مصر – متمثلاً في صداقة الطفولة بين الشيخ عبد الله والصباغ جبره – على حساب ما
يفرّقهم من دقائق العقيدة ومتعلقات الشريعة.
ويشير توقيت إنجاز (الخراط) للرواية سنة 1959 إلى تأثُّره بفكرة القومية
العربية، وربما مغازلتِه لها، لاسيّما أنّ الوحدة القصيرة بين مصر وسوريّا فيما
عُرِف بالجمهورية العربية المتحدة كانت قد أُعلِنَت عام 1958. نلتمس إشارةً لطيفةً
من متن الرواية إلى هذا التأثر/ المغازلة في المشهد الذي يجمع (أسامة الكناني)
برَكب الفرسان القادمين من الشام يسوقون أَسراهم من الصليبيين إثرَ انتصار أهل
دمشق على الصليبيين، حيث يقول أسامة:
"صيداء مقابل دمياط. دمشق تهب للانتقام
للقاهرة. ذلك وحده نصر من الله يا أخي. ألسنا كلنا يا أبناء العرب كالبنيان الواحد
المرصوص؟ إذا أصاب الضر لبنة فيه تداعى له سائر البنيان بالمظاهرة والتأييد".
* تشكيليٌّ مخلصٌ مبدعًا
ومتأملا
بيد أن أهمّ ملمح في أسلوب (إدوار الخراط) في هذه الرواية هو ذلك الإخلاص
منقطع النظير للوصف. يتجلى هذا الإخلاص في المَقطَع الذي تصدَّر هذا المقال من فصل
الرواية الأول، وهو مجرّد نموذج واحد لما تمتلئ به صفحات الرواية من إغراق في
الوصف الذي يُبطئ سير الأحداث حتى تكاد تقارب في بعض الأحيان اللوحة التشكيلية في
سُكونِها الجليل الجميل. نلمح هذا الإخلاص في رسم المشاهد في موضعٍ آخر من الفصل
السادس عشر، وهو ذات الموضع الذي يلتقي فيه أسامة الكناني بالرَّكب الشامي:
"كانت تتدلى من جوانب السُّروج رؤوس بشرية
مجزوزة عن العنق. وقد جفت بشرتها الشقراء وتغضنت، وحال لونها إلى صفرة مغبرة
كابية، عليها أيضًا طبقة خضراء خفيفة من شعر الذقن، وتستهدل عليها فتائل من شعر
ملبد جاف. حدقت الرؤوس الميتة إلى أسامة بأعين مفتوحة شاخصة، فيها نظرة غائمة
متسايلة، وأفواه فاغرة كأنها تصرخ من غير صوت. والرؤوس قد ضمرت قليلاً وصغرت وهي
تهتز مع خبب الجياد وتخبط جُنوب الخيل لا تملك من أمرها شيئا. تكاثفت عليها أرتال
من ذباب ضخم له طنين. والصقور والحدأ تهوم في السماء في دوائر واسعة".
إننا إزاء لوحةٍ التفت مبدعها إلى أدَقّ التفاصيل ولم يترك مساحةً بيضاء
تفتقر إلى خطوطه وألوانه. أو إزاء مشهد سينمائي التقطته عدسات مُخرج حاذق، ولا
نَجهَد كثيرًا لنتصور تتابعًا ماهرًا من اللقطات السينمائية القريبة والبعيدة في
هذا المشهد الرهيب.
ويجد المرء نفسه يستحضر على الفور شهادةً أوردها (إدوار الخراط) في كتابه
(في نُورٍ آخَر: دراسات وإيماءات في الفن التشكيلي) للباحث التونسي (محمد الخبو)،
قال فيها: "إنّ النص الخرّاطي تضخم فيه حضور المكان في حين تراجعَ الزمان-
تقلص السرد وتضخم الوصف"، ثم يعلق أديبُنا قائلاً: "أليس ذلك بالضبط ما
يحدث في اللوحة التشكيلية؟"
في رأيي أنّ هذا الإخلاص التشكيليّ عند الخرّاط يتأرجح بين إخلاص الرسّام
نفسِه كما في الفقرتين المذكورَتين من متن الرواية، وإخلاص الناقد التشكيلي الحاذق
الذي يعرف أنّ دورَه في قراءة اللوحة لن يخلو من تأويلٍ ولكنّه لا يمكن أن يكون
تأويلاً نهائيًّا. يَحضُر الناقد التشكيليُّ مثلاً في هذا المَقطَع من الرواية، من
فصلها التاسع عشر، حيث يصف حملةً كلامية حملَها (مأمون الفرّان) على (بهية) متهمًا
إياها بالفُجور مع قادة الإفرنج، وزوجَها (يحيى) بالدِّياثة. تنتهي حملة الاتهامات
هذه بتدخُّل الشيخ (عبد الله) مدافعًا عن عِرض الزوجَين الغجريين، ليأتي المقطع
الذي نتحدث عنه:
"لم يَرُدّ مأمون بكلمة، وما كان بوُسعِه، بل
الغريب أن توترَه نفسه هو قد تراخَى فجأة، كأنما العبءُ قد أُزيح عن كاهله، وكأنما
القضية قد حُسِمَت، ولعله في قرارتِه كان ينتظر من يَسُدُّ على منافذ قلبه عصف
الشك والتقلُّب".
هنا يُطلُّ المؤلف علينا إطلالة تختلف عن إطلالة الراوي العليم، فلجوءُه
إلى مفردات (الغريب – كأنما – لعلَّه) يُخرجه من خانة (العليم) إلى خانة
(المتأمِّل)، كأنه واقفٌ إزاءَ لوحة (مأمون الفرّان) في هذا المشهد، يقرأها
بتمعُّن ويصفُها لنا ويتأوَّلُها مرجحًا بعض الاحتمالات, مكتفيا برصد ظواهر اللوحة
ومحاولة فهمها في تواضع!
وأعتقد أنّ لُغة (الخرّاط) التي لا يبدو أنها تعترف بمفهوم المفردة
المهجورة أو المتروكة، كما لا تعرف خطوطًا فاصلةً حادةً بين ما هو فصيحٌ وما هو
عامّيّ، هذه اللغة تؤازر موقفَه كوَصّاف مُخلِص لما يفعلُه. لغة الخرّاط - كما
تتبدى في هذه الرواية المبكرة له – لغة منذورة للتخييل، ولا أرى اغترافَه من
المفردات المعجميّة غير المألوفة لمعاصِريه إلاّ صدىً لثورته الصادقة على واقعية
(نجيب محفوظ)، فهو حريصٌ على أن ينقُل قارئه إلى أفق مغايرٍ تمامًا لتجربته
الحياتية، من أوّل المفردة الواحدة إلى رسم المشهد بالكامل.
ختامًا، تظلّ رواية (أضلاع الصحراء) - رغم موقعها المبكر في مشوار (إدوار
الخرّاط) – حاملةً لبذور اهتماماتِه الفنّيّة وقَناعاتِه العميقة في فلسفة الفنّ
ولُغَته المُغايِرَة للسائد بين مُعاصِريه. وتظلّ -بتفاصيلِها الدقيقة الثريّة- كنزًا ينتظر مِن كُتّاب الدراما مَن يكشف
عنه ليتحوَّل إلى مسلسل تليفزيوني، ومِن التشكيليين المُخلصين مَن يخترقُ
الدَّرَقة اللغوية السميكة التي حرص الخرّاط على نسجِها، ليحوِّل بعض مشاهدها
الناطقة إلى لوحاتٍ تتفجّر بالتعبير عن أفراح ومآسي ذلك العصر. تلك المَشاهد التي
اتحدَ فيها روحُ اللون بجسَد الكلمة.