أشرقت شمس الجمعة
الموافق لـ 13 من ديسمبر على فوز كاسح لحزب المحافظين وخسارة غير مسبوقة لحزب
العمال منذ عام 1935. هذه الانتخابات التي أجمع المراقبون على أنها الأهم منذ عقود
ربما تحسم الجدل القائم حول بريسكت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، خاصةً
أنها كانت انتخابات بريكست بلا منازع.
من أصل 650 مقعداً
داخل البرلمان، فاز المحافظون برئاسة بوريس جونسون ب 365 مقعداً محققاً بذلك
أغلبية مريحة تمكنه من تمرير اتفاق الخروج الذي عقده جونسون في أكتوبر الماضي
وعطله البرلمان الذي انقسم بين مؤيدي خروج ومؤيدي بقاء داخل الاتحاد متجاوزاً
الموقف الحزبي. بمقابل خسارة مدوية لحزب العمال بقيادة جيرمي كوربين، الذي حصل على
203 نواب بخسارة 59 مقعداً، وهي أكبر خسارة يحصل عليها الحزب منذ أكثر من ثمانية
عقود. وفي النتائج، فقد حصل حزب الديمقراطيين الأحرار من أحزاب المملكة المتحدة
على 11 مقعداً بخسارة مقعد واحد. فيما جاء الحزب القومي الاسكتلندي في المرتبة
الثالثة ب 48 مقعداً من أصل 59 مخصصة لأسكتلندا في برلمان ويستمنيسر في لندن. وفي
تحليل المشهد الانتخابي نقف عند المحطات التالية:
انتخابات بريكست
هذه الانتخابات هي
انتخابات استثنائية جاءت على خلفية المشهد السياسي المغلق في بريطانيا بعد أزمة 3
سنوات من مأزق نتيجة استفتاء 2016 الذي قرر فيه البريطانيون الخروج من الاتحاد
الأوروبي. فقد عجز حزب المحافظين الحاكم من تمرير اتفاقين مع الاتحاد الأوروبي،
واحد أنجزته رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وواحد أنجزه بوريس جونسون. وكلاهما فشل في
الحصول على أغلبية داخل البرلمان، وهو ما قاد لهذه الانتخابات التي قصد فيها
جونسون
الحصول على أغلبية
تمكّنه من تمرير اتفاقه وتنفيذ الخروج من الاتحاد الأوروبي. على خلفية هذا المشهد،
كانت هذه الانتخابات تطرح سؤالاً وحيداً، رغم كثرة القضايا المهمة التي تلامس حياة
البريطانيين، وهو سؤال بريكست.
إن الطبيعة المحددة
لهذه الانتخابات تطلبت إجابات محددة من قبل الأحزاب المتنافسة في صندوق الاقتراح.
وهو ما أجابت عليه كافة الأحزاب بوضوح باستثناء حزب العمال. فحزب المحافظين تبنى
خيار إخراج بريطانيا من الاتحاد بأي ثمن وتنفيذ نتيجة استفتاء 2016. وحزب
الديمقراطيين الأحرار، الحزب الثالث في إنكلترا، تبنى خيار نقض طلب الخروج من
الاتحاد الذي تقدمت به بريطانيا رسمياً، والذهاب لاستفتاء جديد ودعم خيار البقاء.
فيما تبنى حزب العمال موقفاً محايداً، حيث طرح برنامجه الانتخابي إعادة التفاوض من
أجل اتفاق أفضل للخروج، ثم طرحه للاستفتاء مع وجود خيار البقاء في ورقة الاقتراع.
وتعهد الحزب عدم دعم أي خيار في الاستفتاء المقترح وترك ذلك للناخب البريطاني.
كل حزب من هذه الأحزاب
كانت له مبرراته ومسوغاته لتبني هذه الخيارات، خاصةً حزب العمال الذي لم يرغب
بخسارة الدوائر العمالية التي صوتت لصالح الخروج باستفتاء 2016، وهي 148 دائرة
مقابل 84 دائرة عمالية صوتت لصالح البقاء. إذاً فحزب العمال الذي خسر بمرارة هذه
الانتخابات لم تبتعد حساباته عن بريكست، لكن...
البرامج الانتخابية
بناءً على السؤال
المطروح في الانتخابات عرضت الأحزاب برامجها الانتخابية. فحزب المحافظين طرح
برنامجاً بسيطاً، واضحاً، وواقعياً لدرجة عالية. فالسؤال الرئيسي للانتخابات كانت
إجابته إنجاز بريكست (Get Brexit Done). واحتلت القضايا الأخرى الملحة مثل برنامج
الرعاية الصحية (NHS) جانباً
بالتعهد بزيادة الإنفاق عليه، وزيادة عدد الطواقم الطبية بمقدار 50،000 من أطباء
وممرضين. إضافةً إلى زيادة عدد قوات الشرطة بمقدار 20،000 للإجابة على سؤال الأمن،
خاصة بعد اعتداء جسر لندن الإرهابي الذي حدث خلال الحملة الانتخابية. لم تتجاوز تعهدات
البرنامج الانتخابي للمحافظين أكثر من 2.9 مليار جنيه إسترليني.
بمقابل هذه التعهدات
البسيطة، والبرنامج المركز على قضية بريكست، كان برنامج العمال الانتخابي أوسع
بكثير، وطموحاً وثورياً في بعض المجالات. ففي حين ابتعد عن طرح قضية بريكست قدر
استطاعته، ركّز على حماية برنامج الرعاية الصحية (NHS) الذي اتهم المحافظين ببيعه لصالح اتفاق
تجاري مع الولايات المتحدة في حال أنجزوا بريكست ضمن رؤية جونسون. وطرح قضايا
التأميم بشكل رئيسي، مثل تأميم شركة السكك الحديدية، وشركة الاتصالات (BT) وتعهد بإنترنت مجاني لكل منزل. وركز على
حقوق الطبقة العاملة، وإصلاح النظام الضريبي ليغدو أكثر عدالة من خلال فرض ضرائب
أكثر على الأغنياء والشركات الكبرى. وبلغت تعهدات الإنفاق للعمال في برنامجهم
حوالي 89 مليار جنيه إسترليني، تحت شعار "حان وقت التغيير الحقيقي".
أما حزب الديمقراطيين
الأحرار، فقد طرح قضية البقاء في الاتحاد الأوروبي تحت شعار (أوقفوا بريكست). وهو
ما جعله الحزب الرئيسي الذي يطرح إجابته على سؤال بريكست الانتخابي بمقابل
المحافظين.
يبقى من أحزاب المملكة
المتحدة حزب الخضر الذي يؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي بشدة، وحزب بريكست الذي أسسه
نايجل فراج الذي يؤيد الخروج بشدة. أما باقي الأحزاب التي حصلت على مقاعد في البرلمان،
فقد كانت أحزاباً محلية في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية وويلز، جميعها باستثناء
الحزب الاتحادي الديمقراطي في إيرلندا الشمالية كانت أحزاب تبنت البقاء في الاتحاد
الأوروبي، وطرحت البقاء كعلاج لقضاياها المحلية، ومن أهمها الحزب القومي
الاسكتلندي.
معسكر البقاء ومعسكر
الخروج
هذه الانتخابات لا
تشبه انتخابات 2017 السابقة بقدر ما تشبه استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في
عام 2016. وهي نقطة جوهرية في فهم التنافس الذي حصل. فالتنافس فعلياً حصل على
أصوات من يرغب بالبقاء في الاتحاد الأوروبي ومن يريد الخروج منه. وبالتالي برهنت
النتائج أن القضايا الملحة الأخرى رغم أهميتها لم تؤثر بشكل كبير في قرار الناخب
الذي ألقى صوته في صندوق سيحدد مصيره داخل أم خارج الاتحاد الأوروبي أولاً وقبل أي
شيء. ففضيحة التفاوض
على مصير برنامج الرعاية الصحية (NHS) مع الأمريكيين الذي كشفته حملة العمال ضد
بوريس جونسون أحدثت صدى مدوياً، وكشفت عن نجاح عمالي باهر في حرف النقاش من أجندة
بريكست إلى أجندة تأثيراته السلبية. وساهم ذلك في تقدم ملموس للعمال في استطلاعات
الرأي. إلا أن ذلك لم يحسم قرار الناخب الذي طالب العمال بإجابه واضحة حول موقفه
من الخروج أو البقاء.
لو صح تصنيف التنافس
بين الأحزاب على أحزاب بقاء وخروج، فإن كل أحزاب المعارضة، عدا العمال، كانت أحزاب
بقاء. بمقابل المحافظين وحليفه الإيرلندي الشمالي، الحزب الاتحادي الديمقراطي،
وحزب "بريكست" الجديد، كانت أحزاب خروج.
حسابات الأحزاب
الانتخابية
لقد صنع العمال حساباتهم
على أن قاعدتهم الانتخابية منقسمة بين مؤيد للخروج ومؤيد للبقاء بناءً على نتيجة
الاستفتاء وبالتالي اختار الحياد كي لا يخسر الطرفين. ورغم منطقية الحساب، إلا أن
قيادة العمال لم تقتنع بتغير المزاج العام خلال السنوات الثلاث ونصف التي دخلت
فيها البلاد بأزمة غير مسبوقة بسبب بريكست. وكانت استطلاعات رأي كثيرة قد تنبأت
بأن قاعدة معسكر البقاء توسعت بعد اكتشاف تداعيات بريكست على الحياة العامة للناس،
وحجم الأزمة السياسية والانقسام التي دخلت بها مختلف الأطياف السياسية، إضافة
لعوامل ديمغرافية أخرى. فمؤسسة الاستطلاعات الشهيرة يو غوف (YouGov) كانت قد تنبأت باستطلاع لها بداية هذا العام
بنسبة 56% لصالح البقاء في حال حصل استفتاء ثانٍ حينها.
هذا التبدل في وجهة
نظر الناخب البريطاني أحدث جدلاً واسعاً داخل قيادة حزب العمال الذي وقفت معظم
قيادته الكبرى لصالح خيار دعم البقاء، مثل وزراء حكومة الظل للخارجية والداخلية
والخزانة والبريكست ونائب رئيس الحزب، وهي تقريباً أرفع مناصب داخل الحزب بعد
الرئيس. بمقابل رئيس الحزب، جيرمي كوربين، والنقابات الذين دعموا خيار الحياد
ونجحوا في إقراره خلال مؤتمر الحزب السنوي في سبتمبر، قبيل الانتخابات بحوالي 3
شهور، في تصويت أحدث جدلاً بعد مطالبات بأن يتم عبر الورقة لا برفع اليد. الانقسام
في وجهات النظر حول الموقف من بريكست داخل العمال كان، من جهة، مبنياً على حسابات
نتائج استفتاء 2016
وانتخابات البرلمان الأوروبي التي حظيت فيها الأحزاب الكبرى بخسارة كبيرة أمام
تقدم حزب بريكست المتشدد الذي حصد غالبية المقاعد. ومن جهة مقابلة الاستطلاعات
التي تشير لتقلص فارق النقاط بين العمال والمحافظين بسبب دعم قاعدة البقاء للعمال.
بمقابل حسابات العمال
المعقدة تجاه الموقف من بريكست، كان المحافظون ورغم انقسامهم الكبير حول شكل
بريكست، يجمعون على خيار دعم الخروج. ولم يتأثر الحزب بقراره هذا بنتيجة استفتاء
2016 التي أظهرت أن 80 دائرة من دوائره الـ 327 صوتت لصالح البقاء حينها.
هذا المشهد خيّب آمال
معسكر البقاء في إمكانية دعم حزب العمال، الذي لن يكسب أي صوت من معسكر الخروج
أيضاً كونه قرر أن يكون حزب لا بقاء ولا خروج. وهو مشهد كان مفيداً للغاية لحزب
الديمقراطيين الأحرار الذي دعم البقاء بوضوح، وقضم مئات آلاف الأصوات من قاعدة
العمال المؤيدة للبقاء. وهو الحزب الذي ازدادت كتلته التصويتية من 7.4? إلى 11.5?
لكنهم رغم ذلك خسروا مقعداً واحداً.
في أسباب الفوز
والخسارة
كانت هذه الانتخابات
ذات حسابات دقيقة. فعلياً لم يحقق المحافظون حضوراً في الشارع يختلف عن حضورهم في
نكسة انتخابات 2017 التي سلبتهم الأكثرية. فعدد الأصوات التي حصل عليها حزب
المحافظين في هذه الانتخابات تزيد بنسبة 1.2% فقط. وهي نسبة كان الأصل ألا تصنع له
هذا الفارق لو توحدت المعارضة وأجادت ترتيب أوراقها. لكن العكس هو الذي حصل، فحزب
الديمقراطيين الأحرار فعلياً خاض حربه الانتخابية ضد العمال، وعنواناً ضد بريكست
والمحافظين. والسبب في هذا بسيط يعود إلى أن النقاط التي اكتسبها حزب الديمقراطيين
في استطلاعات الرأي كانت قادمة من القاعدة العمالية، وبالتالي فإن أي تساهل أو
تنسيق بالموقف مع العمال سيؤثر على هذا التقدم. بالمقابل كانت أصوات معسكر الخروج
تعاني من المشكلة ذاتها بين المحافظين وحزب بريكست بقيادة فراج، قبل أن يقرر
الأخير الانسحاب من 331 دائرة بهدف تجميع أصوات معسكر الخروج للمحافظين، وبالتالي
حرمان العمال أو أيٍ
من أحزاب البقاء الاستفادة من تشتت أصوات الخروج. وهو ما أجدى نفعاً بدرجة عالية،
بخلاف الدوائر التي تنافس فيها العمال والديمقراطيون الأحرار مع المحافظين، حيث
كسب المحافظون مقاعد بسبب انقسام أصوات معارضي الخروج بين العمال والديمقراطيين
الأحرار وغيره من أحزاب البقاء الصغرى والمحلية. وأوضح مثالين على ذلك دائرة
ويستمنستر في لندن التي كان يمكن للديمقراطيين الأحرار انتزاعها من المحافظين
بانسحاب مرشح العمال، ودائرة كينسينغتون التي استعادها المحافظون من العمال، رغم
تراجع عدد المصوتين لصالحهم، بعد أن ذهبت أصوات عمالية للديمقراطيين. ويمكن القياس
على ذلك في كثير من الدوائر التي فاز بها المحافظون دون تحقيق زيادة في الأصوات.
الشاهد في الموضوع أن أصوات العمال كانت أصوات بقاء في أغلبها، ذهبت إما
للديمقراطيين الأحرار أو الأحزاب المحلية في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية كأحزاب
بقاء. وما ذهب من كتلة التصويت العمالية المؤيدة للخروج كان هو الأقل، حيث ذهبت
تلك الأصوات لحزب بريكست بشكل أساسي الذي حصل 0 مقاعد لكن حوالي 800 ألف صوت،
ولحزب المحافظين الذي حصل على زيادة بحوالي 300 ألف صوت فقط في جميع أنحاء
بريطانيا عما كانت عليه كتلته في عام 2017. بينما خسر حزب العمال حوالي 2.5 مليون
صوتاً، هي في أكثرها أصوات تؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي.
عوامل أخرى في خسارة
العمال
لا شك أن عوامل أخرى
لعبت دوراً في خسارة العمال، ولا يمكن تجاهلها. ومن أمثلة ذلك الحملة التي شُنت ضد
جيرمي كوربين شخصياً من قبل معظم وسائل الإعلام بما فيها العمالية. ولكن كوربين
نجح في تجاوز هذا التحدي في انتخابات 2017 حين حقق تقدماً مهماً لحزبه، وباعتقادي
أنه تجاوز هذا التحدي بقدر ما في هذه الجولة من خلال إقرار واسع بنجاح حملة العمال
الانتخابية وتفوقها في بعض الجوانب. إلا أن معضلة كوربين كانت متعلقة بموقفه من
بريكست الذي استطاع فرضه على الحزب، وهو كما أسلفنا كان خياراً انتحارياً في هذه
الانتخابات. فقد قاد ذلك الموقف لبرنامج انتخابي ذو شعار عريض يحتاج وقتاً طويلاً
لقياسه من الناخب الذي يعيش ضغط أزمة بريكست ويبحث عن مخرج سريع،
وهو ما توفر في شعارات
الخروج والبقاء التي يمكن ملاحظة ملامحها بمجرد صدور نتيجة الصندوق. كما أن الوعود
الكبرى التي أطلقها برنامج العمال شككت الناخب بواقعيتها، بمقابل برنامج المحافظين
المتواضع الذي أعطاه مصداقيه رغم وصف "الكاذب" الذي لاحق بوريس جونسون
طوال الحملة، خاصة أن جونسون هو قائد حملة الخروج في استفتاء 2016 الذي اتسم
بالتضليل. وهذا يحسب لإدارة حملة المحافظين الانتخابية التي وضعت برنامجاً بسيطاً
يركز على السؤال الرئيس ولا يستطيع أحد التشكيك بإمكانية تنفيذه، وهو ما يبعد
توصيف الكذب والتضليل الذي يرافق جونسون عن الأذهان. ولذلك فإن برنامج حزب العمال
كان كمن يمتلك سيارة سباق تؤهله للوصول لخط النهاية بجدارة، لكنه لن يستطيع
استخدامها للفوز بسباق للخيول. هذه الانتخابات حددت شكل العربة التي يجب استخدامها
للوصول لقصر باكينغهام من أجل التكليف بتشكيل حكومة جلالتها، وكانت العربة هي
بريكست، وبريكست فقط.
جيرمي كوربين
يشكل كوربين أكثر
شخصية استثنائية في السياسة البريطانية المعروفة برتابتها وعدم رغبتها تجاوز
التقليد. سياسي لم يأتِ من نوادي النخبة، وعاش حتى اليوم، في كل تفاصيل حياته، مع
عموم الطبقة الوسطى والطبقة العاملة. وبطبيعة الحال، فقد جاء من خارج المؤسسة التي
اعتبرت قدومه غير عادي، ويهدد بإعادة إنتاج هوية السياسة البريطانية بطريقة
راديكالية.
كونه من خارج المؤسسة،
فقد قاد كوربين حزبه باتجاه برنامج اشتراكي يهدد مصالح النخبة والشركات وقطاعات
اقتصادية حيوية في البلاد، وهو ما جعلها خصماً رئيسياً من خصومه. إضافة لذلك فجيرمي
جاء محملاً بإرث تاريخي من المواقف السياسية جعله يبدو في بعض الأحيان خطراً على
أمن البلاد. لدى جيرمي كوربين موقف من الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين
جعله هدفاً للوبي المؤيد لإسرائيل، الذي شن عليه حملة غير مسبوقة ضد سياسي في
بريطانيا. إلا أن هذه لم تكن كبرى المآخذ عليه. فجيرمي لا يطرح سقفاً أعلى من سقف
الموقف البريطاني الرسمي المتمثل بحل الدولتين تجاه الصراع الفلسطيني مع الاحتلال.
ووعده الوحيد في هذا السياق هو الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حال فوزه. لكنه
ناقد مباشر
لإسرائيل قولاً
وفعلاً، وداعم كبير، قولاً وفعلاً أيضاً، للفلسطينيين. وهذا فارق ليس بالبسيط في
نظر الاحتلال في دولة بحجم بريطانيا ودورها. إلا أن إرث جيرمي الثقيل مرتبط
بمواقفه من قضايا تمس الأمن القومي بالمفهوم المباشر لبريطانيا. فالرجل لم يكن
يخفي علاقته وقربه من الجمهوريين الإيرلنديين، ومنهم الجيش الجمهوري، الذين لم يزل
تصنيفه حتى اليوم الخطر رقم واحد على بريطانيا. أضف لذلك فإن موقف جيرمي من امتلاك
بريطانيا للسلاح النووي واستخدامه في حال الضرورة هو الآخر من قضايا الأمن التي لا
يمكن تجاهلها مع رجل سيكون أول عمل يقوم به كرئيس وزراء كتابة تعليمات استخدام
السلاح النووي لقادة الغواصات النووية الأربع في حال الحرب وانقطاع الاتصال
بالقيادة. أما في السياسة الخارجية فكوربين لم يتراجع كثيراً عن مواقفه المعادية
للنظام الرأسمالي الدولي، ومنها الاتحاد الأوروبي نفسه، حيث يحلل البعض أن عدم
دعمه خيار البقاء مرتبط بهذا المبدأ. في الوقت ذاته تعاطفه مع ديكتاتوريات
اشتراكية في العالم العربي وأمريكا الجنوبية وإفريقيا. وليس آخراً موقفه من روسيا
التي تخوض صراعاً (غير طبقي) مع الغرب، وخاصة بريطانيا التي يُعتقد أن روسيا
استخدمت على ترابها سلاحاً محرماً دولياً لاغتيال معارض روسي قبل سنتين، في انتهاك
غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.
سيناريو نجاح العمال
هناك وجهات نظر منطقية
وتستند لأساس مفهوم تقول أن العمال سيخسرون الانتخابات حتى لو أجابوا على سؤال
بريكست ودعموا خيار البقاء. وهذا كلام تؤيده استطلاعات الرأي التي لم تتنبأ للعمال
بالفوز بأغلبية ولا بأي مرحلة من المراحل منذ انتخابات 2017. لكن كان بإمكان
العمال الفوز بسلب المحافظين الأغلبية التي حصلوا عليها دون أن تكون لهم غالبية
تصويتية (43.6 %). فحزب المحافظين لم يكن له أمل بتشكيل حكومة بالتحالف مع أحزاب
أخرى، باستثناء الاتحادي الديمقراطي الإيرلندي الذي فاز ب 8 مقاعد، وأقصى ما يمكنه
الحصول عليه 10 مقاعد كما في 2017. ولو نزلت عتبة مقاعد المحافظين عن 310 (حصل في
2017 على 318) فلن يكون لديه فرصة لتشكيل حكومة. بينما العمال كان بإمكانه تشكيل
حكومة أقلية مدعومة من أحزاب البقاء الأخرى فيما لو حافظ على عتبة فوزه الانتخابي
في
2017 وما حولها، مع سلب
المحافظين بضعة مقاعد تمنعه من تشكيل تحالف. فخيار البقاء الذي سيتبناه العمال كان
سيلغي حالة الاستقطاب بينه وبين الديمقراطيين الأحرار، ويجعل التحالف أو التعاون
بينهم أمراً ممكناً. إضافةً لباقي الأحزاب المحلية التي تمثل دوائر البقاء. وهذا
كان من شأنه توحيد معسكر البقاء الذي مثلت نسبته التصويتية مع العمال في هذه
الانتخابات حوالي 52?.
خاتمة
يبقى القول إن هذه
النتيجة قد تترك آثارها السلبية على بريطانيا مستقبلاً. فإنجاز بريكست رغم اتساع قاعدة
البقاء مسألة استفزت وستستفز الهويات المحلية في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية التي
عبرت نتائجها عن هذا المنحى. فلأول مرة في إيرلندا الشمالية تتجاوز نسبة التصويت
لأحزاب الجمهوريين والوطنيين الإيرلنديين (مؤيدي الهوية والاستقلال الإيرلندي)
نسبة التصويت للاتحاديين (مؤيدي الاتحاد مع المملكة المتحدة). أما في اسكتنلدا،
فالأمر واضح في نجاح الحزب القومي الإسكتلندي على حساب المحافظين والعمال (أحزاب
لندن الرئيسية).
هذه الانتخابات كانت
فعلياً الاستفتاء الثاني الذي وعدت به أحزاب المعارضة، والتي صوّت فيه مؤيدو
البقاء للخروج من الاتحاد بطريقة ما.
وفي النهاية فإن
التدافع الحاصل هو نتاج عملية ديمقراطية لن يتمكن طرف ما من تجاوزها مهما سجلت
آلياتها من عطب في إنجاز العدالة التي أرست هي قواعدها في الأساس.