كنت قد كتبت قبل ذلك في مقال عن بلاغة "الغلابة"، ذلك أن هؤلاء "الغلابة" الذين يقطنون بر مصر قد لا يملكون مالا ولكنهم يملكون لسانا يعبر عن حالهم من فقر وقهر.. بتلك البلاغة شبه أحدهم ما حدث من إلقاء اثنين من شباب الباعة المتجولين نفسيهما بإكراه وإجبار من "كمساري القطار"، حينما تحرك القطار ولم يستطيعا النزول فقرر الفرعون الصغير (هذا الكمساري) أن ينزل الاثنان والقطار في حالة الحركة، بل فُتح الباب وقد كان مغلقا حتى يقفزا من القطار المتحرك بسرعته. ترتب على ذلك مقتل أحدهما تحت عجلات القطار، وقد انفصلت رقبته عن بقية جسده وآخر قد بترت ساقه.
وصف أحد الكاتبين على وسائل التواصل الاجتماعي هذا الحادث ببلاغة؛ بأن القطار هو الوطن لا مكان فيه للغلابة والفقراء. أما الركاب فهم شعب من شعب، أما "الكمساري" فهو "السيسي" أو صورة منه.. قرر السيسي دافعا اثنين ممن كانوا في القطار.. فإما الدفع أو أن يرغما على النزول من القطار وهو يسير في سرعته. وهؤلاء شعب من شعب قتلهم السيسي، وصمت بقية القطار. ربما أُثير البعض فأصابته موجة من رحمة فرد عليه "الكمساري" بأنه "يعرف شغله" وأوصاه "بأن يكون في حاله ولا يتدخل". صمت الجميع وانتهت فصول الحادثة.
هذا التشبيه البليغ إنما يعبر عن حال مصر، حال مصر الوطن. فقد قرر "الكمساري" (السيسي) أن يقتل بعض هذا الشعب تحت شعار "اللي معهوش ميلزموش"، وأكد على الجميع أنهم "هتدفع يعني هتدفع"؛ بات هذا هو القانون، قانون التحكم الفاشي.
هذا التشبيه البليغ إنما يعبر عن حال مصر، حال مصر الوطن. فقد قرر "الكمساري" (السيسي) أن يقتل بعض هذا الشعب تحت شعار "اللي معهوش ميلزموش"
في هذا المشهد المركب سبقه مشهدان، أحدهما كان لشباب شاهد بعضهم يتحرشون بفتاة فانتفض يعاتب أو يدافع عن الفتاة، فقتله أحدهم بمساعدة البقية. ولكن هذا القاتل ينتمي إلى عائلة متنفذة أصرت أن يفعل ابنها ما شاء وأن لا يحاسب على فعلته. أما المشهد الثاني فكان كشفا من أمطار السماء لأحوال فساد خطيرة. هذه الأمطار كشفت عن إشكال في الصرف الصحي في القاهرة وبعض المحافظات، فقتل من الأطفال ومن صادفهم الحظ العاثر بالصعق الكهربائي الذي كمن بالمياه، قَدر البعض عدد هؤلاء بالعشرين. بل إن شبكة طرق تباهى بها "السيسي" قد
أصابتها التصدعات وانكشف أمرها.. أمطار السماء كشفت فساد أهل الأرض والسلطة، فهذه
الحوادث جميعا حوادث كاشفة تؤكد على عدة مجتمعات تعيش على أرض وطن واحد استطاع فيها من يقود ومن انقلب أن يشكل سلوك بعض تجمعاته، الأحياء فيها كالموتى، والموتى فيها في كل مكان والأخبار تتوالى وتفوح منها رائحة الموت في أرجاء الوطن، المهم أن تبقى السلطة الطاغية الفاسدة الفاشلة الفاجرة وتبقى قصورها مشيدة محمية.
هذه المشاهد جميعا تحكي قصة مصر في تجليات أربعة؛ أولها منظومة سلطة فاشية فاسدة غشيمة غبية تحترف الطغيان والاستبداد في دولة بوليسية تعلن تجديد الطوارئ بعد مرور كل ثلاثة شهور، وتتجدد حالة الاستثناء من غير أن يكون لذلك نهاية. الوطن في عرف هؤلاء مستهدف يتآمر الجميع عليه، ووهم والحفاظ على الدولة التي هي سلطان عصابتهم جل همهم، يعفون أنفسهم من كل مسؤولية رغم فُجر فعلهم ومؤشرات فشلهم وفي كل مرة يتنصلون من المسؤولية فهم فوق الحساب ولا يطولهم أي عقاب، وليس لأحد أن يئن أو يشكو؛ فإن شكا فهو إخوان، وإن ظهر صوته فهو مواطن غير صالح أو متعاطف مع الإخوان أو يؤدي مهمتهم.. لا ندري ما تلك المهمة؛ لكنه في التصنيف كاره وخائن للوطن. إلا أننا نذكر أن هذا "الكمساري" المسؤول أو المنقلب الذي يتحكم لا يزال يعلن أن على الجميع أن ينصاعوا وألا يشكوا أو حتى يتلفظوا بلفظة ألم. إن حق الألم ليس مكفولا، وحق الكلام موؤدا ومدفونا، وأي حقوق أخرى ليست إلا منة أو إحسانا من عصابة الطغيان، أو هو من فتاتهم يٌترك للبقية.
أما المنظومة الثانية، فهي منظومة فاسدة فاشلة لا تقبل أن يتحدث أحد عن فسادها أو يتفوه بكلمة عن فشلها.. هي منظومة العصابة، عصابة لا يجرؤ أحد عندها على الكلام أو حتى التعبير عن الآلام، فإن ظهر فسادها أو انكشف أو انفضح أمره وبان مستوره؛ فإن المبررين من أجهزة الإفك والأزلام ينطلقون في معزوفة تتعلق بعدم المسؤولية، وعلى الجميع أن لا يتحدث عن الأمر والسلام. منظومة
الفساد والفشل تحمي نفسها بالقوة والسلاح، وبالفاشية والقتل بالترويع والتفزيع، فمن يجرؤ على الكلام؟
هي منظومة فاسدة فاشلة لا تقبل أن يتحدث أحد عن فسادها أو يتفوه بكلمة عن فشلها.. هي منظومة العصابة، عصابة لا يجرؤ أحد عندها على الكلام أو حتى التعبير عن الآلام
أما المنظومة الثالثة فهي منظومة الضحايا، ومجتمع الغلابة ليس له من ثمن في بورصة الإنسان. فمن أجل تذكرة يُدفع بالمواطن إلى القتل أو البتر، وفي ذات الوقت فإن سياسات أخرى تتعلق بالمسخرة يصرف عليها الملايين بل المليارات، فإن افتضح أمرهم بات على هؤلاء أن يقبلوا تعويضا دراهم قليلة من إحسانات السلطة الغشيمة. والسلطة الغاشمة تتفنن في الجباية، لا تترك لأحد ما يستطيع أن يتقوت به وأن يعول به أولاده، ثم تترك الناس لغول الغلاء يفترسهم ويمتك عظامهم.
ومع منظومة الفساد فإن أداء المصالح لا يكون إلا بمحسوبية أو رشوة مالية. الفاسدون يمرحون، والغلابة لا يطيقون، وفي مشاهد كثيرة يموتون حتى لو أراد أحدهم أن يكسب بعمله لقمة شريفة حتى لا ينكشف حاله ويُكسر ظهره وينقطع أمله ويطول ألمه ويعظم فقره ويتراكم إفقاره.
ها هم الآلاف من المعتقلين والآلاف من المطاردين والآلاف من المقتولين ومن عائلات مشردة وأسر مبددة. وعن أهل سيناء حدث ولا حرج، فإنهم خارج التغطية وأحوالهم خارج التصديق والتحقيق، والضحايا يتكاثرون والموت يفوح من أرجاء الوطن لأسباب متعددة؛ فهذا منتحر وهذا مقتول وهذا مصفى، وذلك يموت من جراء إهمال علاجه فلا مستشفيات تقبله ولا مشافي تعالجه. تعددت الأسباب والموت واحد.. منظومة الضحايا تتراكم وتزداد، ومجتمع الغضب كامن بين الجوانح كقدر يغلي لا ندري ساعة انفجاره.
أما المنظومة الرابعة فتتمثل في مجتمع الفُرجة، الساكت الصامت اللامبالي. جاء على لسان الشاب المبتور يحكي على لسان الشاب المقتول أنه قال: "هو القطر ده مفهوش رجالة ولا إيه"؛ ثم قفز ليكون تحت عجلات القطار. ومجتمع الفُرجة يمصمص شفاه بعد كل حدث عابر، وينصرف أصحابه كل منهم إلى حال سبيله؛ لا يعرف إن كان سيكون من المقتولين أو سيكون من هؤلاء الذي يحيون وهم أموات، من الصامتين الساكتين. هذه هي الأحوال في مجتمع الفُرجة تجتمع فيه حالات متناقضة، لكنها في النهاية أحوال بائسة تستمر فيها الأوضاع على سوئها وقبحها.
حذارِ.. فإن مصر قد تسقط كلها تحت عجلات القطار. إلى هؤلاء الغاشمين الفاسدين والطغاة المستبدين المتسلطين وفي غيهم يعمهون. وإلى هؤلاء الفاسدين وفي فسادهم يرتعون؛ فيحسبوا أنهم آمنون، وإلى الضحايا المقتولين ومن ينتظرون قتلهم من المقهورين وفي ذلهم يقيمون، وإلى مجتمع الفرجة الصامت الساكت وفي ذلهم سادرون.. سيكون أمرا خطيرا في مصر المحبوسة المخطوفة من عصابة طاغية، تتحكم وتستعبد وتستبد.. ثوروا قبل أن تموتوا.. وتكونوا من المقتولين.