الكتاب: الحداثة وما بعد الحداثة
الكاتب: بيتر بروكر، ترجمة: جابر عصفور، مراجعة: عبد الوهاب علوب
الناشر: رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة- الطبعة الأولى 2019،
عدد الصفحات: 375 من القطع الكبير
في الجزء الثالث والأخير من عرضه ومناقشته لكتاب "الحداثة وما بعد الحداثة" للكاتب بيتر بروكر، يركز الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني، على استعراض التفاعلات الفكرية والفلسفية في عملية الانتقال من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، مع كل ما اعترى ذلك من كتابات فلسفية وأدبية راوحت بين الواقعية الكلاسيكية والحداثة الأدبية في مضامينها وأشكالها في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
الواقعية النقدية
يُعدّ جورج لوكاتش (1885- 1971) واحداً من أبرز منظري النقد الماركسي وممارسيه ومطوِّريه، ويتضح ذلك من الكيفية التي وظَّف فيها ما يعرف بالواقعية الاشتراكية في دراساته، خاصة ما كتبه حول الرواية في كتابه "دراسات في الواقعية الأوروبية"، حيث يشن هجوماً حاداً على عدد من المذاهب السائدة آنذاك، فهو يهاجم المذهب الطبيعي في القصة، خاصة في أعمال إيميل زولا، لأنه يفصل الإنسان ـ وهو كائن عضوي بيولوجي ـ عن متغيرات التاريخ والحياة الاجتماعية والأخلاقية. وقد لاحظ لوكاتش هذا الفصل في نقده للتجريب الحداثي في تركّزه حول الذات واندفاعات الشعور، خصوصاً في أعمال بروست وجويس، ويقول إن في هذا الفصل تجزيئاً للإنسان وانعكاساً للرأسمالية التي تفصل داخل الإنسان عن خارجه، فتحدث تشويهاً يرفضه الواقعيون الكبار من أمثال بلزاك وتولستوي.
يرى لوكاتش أن الواقعية تسعى إلى تناول شمولي للإنسان يأخذ في الحسبان الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية من دون أن يتجاهل البعد الداخلي الذاتي، "فالنوع والمعيار الأساسي للأدب الواقعي هو النموذج وهو مركب من نوع معين يربط العام والخاص ربطاً عضوياً سواء على مستوى الشخصيات أو الأوضاع". ولا تبحث الواقعية عن المتوسط في الناس والموضوعات على نحوٍ تجزيئي، بل عن الحياة مكتملة في النموذج، فهو أساسي ومشترك وبالغ الاكتمال.
التطورات التي طرأت على نظرية ما بعد الحداثة، بما في ذلك تأثير التحليل النفسي ونظرية التفكيك على النقد الماركسي تجاوزت تأملات لوكاش وأفكاره عن الوحدة الأدبية والإجمالية الاجتماعية وجعلت بريشت يبدو كأنه معاصر لنا من جديد
استمرت المناظرة التي دارت بين لوكاش وبريشت في الثلاثينيات حول أشكال "الواقعية النقدية" أو "الاجتماعية" وما لها من أثر سياسي لا يقل أهمية كموضوع رئيس في النقد الماركسي. كان لوكاش ينظر إلى الواقعية الأدبية لروائيين كبالزاك وتوماس مان باعتبارها انعكاساً صادقاً للعوامل الحاسمة المهمة في "عملية الحياة". فيرى أن "الرواية الواقعية تتواصل في وحدة الفرد والكون الذي يحوى "إجماليته المدمجة" مع "الإجمالية الموسعة" للكيان الاجتماعي الكلي وترصد حركته التقدمية رصداً أميناً.
يقول بيتر بروكر حول معنى "الواقعية المعاصرة": "كان لوكاش في الثلاثينيات يهاجم التعبيرية الحداثية Modernist Expressionism لاسيما لفشلها في الوفاء بهذه المعايير. ثم عاد فيما بعد إلى النقد الرصين للحداثة في كتابه The Meaning of Contemporary Realism (معنى الواقعية المعاصرة)، حيث يرى لوكاش في الحداثة تعزيزياً للاغتراب الرأسمالي، وهي رؤية عارضها كلٌ من أدورنو (الذي كان يرى في الحداثة إنكاراً لذلك الواقع) وبريشت.
ويثني لوكاش في كتابه على واقعية بعض مسرحيات بريشت (جاليليو، الأم شجاعة، دائرة الطباشير القوقازية) إلا أن تفسيراته لم تكن تفسيرات بريشت نفسها. فسعى بريشت إلى أخذ الوسائل الفنية التجديدية الحداثية إلى أقصى مداها. وفي رده على النمط "الشكلي" للواقعية لدى لوكاش، نراه يعرض نمطاً شعبياً مرناً من الواقعية مفتوحاً أمام التجريب والاستعانة بوسائل الإعلام الجديدة وأمام الظروف المتغيرة. وكان هدفه الذي يرمي إليه من وراء هذه "الحداثة الماركسية" التي فُهمت بصورة جدلية الحث على اكتساب معرفة نقدية "لقوانين تطور" المجتمع، وبالتالي تحقيق سيطرة شعبية على الواقع القائم والمستقبل المرتقب.
يبدو أن التطورات التي طرأت على نظرية ما بعد الحداثة، بما في ذلك تأثير التحليل النفسي ونظرية التفكيك على النقد الماركسي تجاوزت تأملات لوكاش وأفكاره عن الوحدة الأدبية والإجمالية الاجتماعية وجعلت بريشت يبدو كأنه معاصر لنا من جديد. على أي فالمناقشات التي سبقت الإشارة إليها تدل على عدم وجود إجماع حول هذه الأمور. إنَّ أدب الواقعية الذي يهدف إلى تصوير الواقع تصويراً أميناً يجب أن يبين كلاً من الاحتمالات المادية والمجردة للبشر في مواقف من هذا النوع" (ص 71 من الكتاب)..
يورغن هابرماس ومشروع الحداثة غير المكتمل
يقول الباحث العراقي إبراهيم الحيدري عن الحداثة والتواصل العقلاني في في تجربة يورغن هابرماس: "يعتبر يورغن هابرماس (1929 دسلدورف بألمانيا) آخر وأهم رواد مدرسة فرانكفورت النقدية. اهتم بدراسة المجتمعات الرأسمالية المتأخرة (ما بعد الصناعية) ذات الأيديولوجية التكنوقراطية كما صاغها في نظريته (الفعل التواصلي) التي تضع حلولا عقلانية لمواجهة تحديات الرأسمالية والعولمة وما بعد الحداثة والتي تهدف إلى بناء عالم إنساني عقلاني ومنظم عن طريق الديمقراطية التعددية التي تقوم على التفاهم والتواصل والحوار العقلاني المستمر للتحرر من العقل الأداتي الذي يسيطر على العقل الأوروبي".
وأضاف: "استمد هابرماس مرجعيته الفكرية من مدرسة فرانكفورت النقدية وروادها الكبار التي تعود في أصولها الفكرية إلى عصر التنوير والفلسفة الألمانية المثالية الموضوعية وخاصة كانط وهيغل".
ويتابع الحيدري: "إن التحولات البنيوية الجذرية التي طالت المجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى دفعت مجموعة من المفكرين الاجتماعيين في ألمانيا إلى إرساء دعائم
فلسفة اجتماعية نقدية جديدة ترفض الفكر الفلسفي التقليدي، مثلما ترفض النظام الاجتماعي القائم ومؤسساته، محاولين تطوير الجانب النقدي من الفلسفة وعلم الاجتماع والانطلاق منه إلى صياغة نظرية جديدة وعلم اجتماع نقدي له مفاهيمه الخاصة وميدانه المحدد، كبديل للفلسفة التقليدية وعلم الاجتماع الوضعي".
ظهر مقال هابر ماس لأول مرة كمحاضرة ألقيت في أيلول (سبتمبر) 1980 عندما منح جائزة تيودور أدورنو من مدينة فرانكفورت، ثم طبع لأول مر ة تحت عنوان "الحداثة في مقابل ما بعد الحداثة". ويدل عنوان المقال على اتجاه إشكالية هابرماس. أولاً كان هابر ماس يرد على "النزعة المحافظة الجديدة لدى عالم الاجتماع الأمريكي دانييل بيل الذي كان حديثه عن المجتمع "ما بعد الصناعي" يأوي "ما بعد الحديث" في رأي هابر ماس يبالغ في تحديد تأثيرات التحديث الرأسمالي في ارتباطه بالحداثة الثقافية.
التحولات البنيوية الجذرية التي طالت المجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى دفعت مجموعة من المفكرين الاجتماعيين في ألمانيا إلى إرساء دعائم فلسفة اجتماعية نقدية جديدة ترفض الفكر الفلسفي التقليدي، مثلما ترفض النظام الاجتماعي القائم ومؤسساته،
ثانياً كان هابر ماس يرد على نقد الاتجاه العقلاني والتقدم الاجتماعي في قلب مشروع التنوير الذي قال به نصيراً ما بعد البنيوية الفرنسيان فوكو وديريدا، ويصفهما هابر ماس بأنهما "شابان محافظان" و"يناهضان الحداثة" (ولو أنه يعتقد أنهما اعتمدا على كل من الحداثة والعقلانية فيما ذهبا إليه).
ومن وجهة نظر بيتر بروكر: "تمثل "الحداثة" في هذه المناقشات رؤية جمالية أخلاقية وسياسية مشتركة توحدت في فكر القرن الثامن عشر، لكنها عادت وانقسمت على نفسها في خضم التطورات اللاحقة التي طرأت على مجتمعات الغرب. ويعتقد هابر ماس أن العقل ارتبط خطأ في هذه الرؤية بالموضوع الإنساني الفردي. ويشترك في نقده هذا عن الفلسفة التي يكون "محورها الموضوع" مع ما بعد البنيوية. لكنه يرى أن مشروع التنوير من أجل التفهم والعدالة والديمقراطية يمكن إدراكه من خلال عملية إعمال للعقل يدعمها التزام مشترك بأهداف هي الحقيقة والحق والإخلاص. وقام بتطوير هذه النظرية بصفة خاصة في Legitimation Crisis (أزمة الشرعية، 1976 وفي The Theory Of Communicative Action (نظرية التواصل" (2 ج، 1985، 1988) وفي The Philosophical Discourse of Modernity (خطاب الحداثة الفلسفي، 1988).
والمناظرة بين هابر ماس ونظرية ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة هي مناظرة عن الماركسية كفلسفة اجتماعية وسياسية قائمة. وفي هذه المناظرة نجد رؤية هابرماس التطورية للمادية التاريخية تقف في مواجهة كل من السياسة الطبقية الثورية للماركسية الكلاسيكية و"الشكل" بعد الحداثي تجاه السرد القصصي الشارح "بأكمله في التاريخ البشري"(ص 189-190 من الكتاب).
النظرية النسوية: الضمير السياسي لما بعد الحداثة
إن من أحدث الاهتمامات المحورية لأنصار النظرية النسوية ما إذا كان الالتزام المزدوج الذي تبديه النظرية النسوية تجاه التفكيكية وبنَى السيطرة وتجاه الحرية والمساواة والعدل بالنسبة للمرأة معناه انحياز هذه النظرية لما بعد الحداثة أو المشروع السياسي للتنوير. أضف إلى ذلك أن هناك من يتمنون العمل خارج المصادر النظرية والمركزية العرقية لكل من هذين الاتجاهين وضدها.
توجز لورا كيينيز في مقالها الفروق بين النظريتين النسائيتين الفرنسية والأمريكية بصورة موازية لهذا التمييز المذكور في البداية والذي قامت به أيضاً. والنظرية النسوية في رأيها بعد حداثية، لكنها فشلت في الوفاء بدورها السياسي المرتقب، ونأت بنفسها عن "الشعبي" بالصورة نفسها التي نأت بها الماركسية الغربية المهزومة عن "الجماهير" وبعد أن تسببت في أزمة في الحداثة، تخلت عن مجال الأشكال والاتجاهات الشعبية واتجهت نحو اليمين الجديد، في حين عادت هي نفسها إلى الإيمان بهيمنة الصفوة على نوع من الإبداع الحداثي.
المناظرة بين هابر ماس ونظرية ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة هي مناظرة عن الماركسية كفلسفة اجتماعية وسياسية قائمة.
وبينما يرى محللون آخرون (ومنهم كالينيكوس وفايل) في ما بعد الحداثة تعبيراً ثقافياً عن طبقة متوسطة جديدة ونزعة محافظة جديدة، نجد أن كيبنيز ترى أن ما بعد الحداثة التفكيكية اليسارية النسوية يمكن، بل ينبغي، أن تنافس هذه النزعة الشعبية الجديدة، ما يعنى الخروج من رفاهية الاهتمامات النظرية والنصية التي لا تؤدي إلا إلى ترسيخ هيمنة العالم الأول وتميزه. و"لنزع المركزية السياسية" يمكن للمشروع النسويِّ بعد الحداثي أن يغلق هذه الحقبة بعينها ويساعد عليه.
يقول بيتر بروكر حول النظرية النسوية: "من الواضح أن مسألة الفاعلية تكمن في المركز السطحي لعملية صوغ الحداثة الجارية حالياً. وفي نطاق ما يمكن تسميته بالنظرية اليسارية الحالية ـ الماركسية والنظرية النسوية وما بعد البنيوية اليسارية ـ يعتبر "الفاعل" قاعدة تبدو حالياً كأنها تحدد التساؤلات التي ينبغي لنا أن نطرح. وهذا "الفاعل" نتعرف عليه من سماته، فهو يتكلم ويتصف بالذكورة والأنوثة وهو اجتماعي أو هو أثر لغوي ومحيَّد ويظن أنه يعرف الكثير. وبقدر ما تعد الذات الفاعلة نوعاً إيديولوجياً، فلابد أن يكون وضوحها الشديد ووجودها الظاهري سياسياً حتى النخاع مع أن مجال الرؤية لا ينفصل عن تكوين الفاعلية.. فالوضوح نظام معقد من المنح والمنع ومن الحضور والغياب.
ولنفرض بداية أن وضوح الذات الفاعلة المرتبط بفقدان وظيفته يعد دينامية أخرى لسد الفراغ السياسي للحداثة والذي يحدث فيه دعم للقوة السياسية تحت شعار العقلانية التنويرية. وفي "الذات الفاعلة المتمركزة" بصلتها المجازية بمركزية الغرب السياسية، تكمن ضرورة جعل بقية العالم مفعولاً لها، للغزو وللمعرفة ولفائض القيم. وفي الصورة الحديثة "للذات الفاعلة المتمركزة"، يختبئ مجاز تدهور قوى التحديث الاستعمارية العظمى وضياع الهيمنة الغربية والذي انعكس علينا هنا في الولايات المتحدة في شطحات تعويضية مثل "رامبو" و"الفجر الأحمر" ورونالد ريجان" (ص301 ـ 302 من الكتاب)..
والشيء المميز في هذه الحداثة المتحضّرة هو الأزمة النظرية التي تحدثها والتي تدخل حكايات التحرير التقليدية فيها في دائرة الشك ما يؤدى إلى فتح ثغرة نظرية تحاول هذه الاتجاهات المتباينة من الحداثة أن تملأها دون جدوى. والشيء المفتقد هو وجود حوار سياسي بعد حديث. فهذه الهوية العرضية تتضح في النظرية النسوية في العالم الأول والتي يبدو أنها وقعت بين منطق سياسي بعد حديث وليد، وحداثة باقية.
إن عمليات نزع المركزية في ما بعد الحداثة تشكك في النماذج العرقية والمعرفية والثقافية وفي أشكال الخطاب الثانوية والمهمشة وفي التراث، وبالتالي فإن وجهات نظر المثقفين والفنانين الأفرو أمريكيين ممن يعيشون تاريخاً مشتركاً بين البيض والسود تتسم بأهمية نظرية وعملية خاصة.
يقول الكاتب الروائي الأمريكي توني موريسون: إن الظروف النفسية والاجتماعية المرتبطة بالحداثة وما بعد الحداثة كانت تتطابق مع العبودية بالنسبة للسود. "فالحياة الحديثة تبدأ بالعبودية. وكان على المرأة من وجهة نظر نسوية أن تتعامل مع المشكلات "بعد الحديثة" في القرن التاسع عشر وما قبله... أنواع معينة من الانحلال وفقدان الاستقرار والحاجة إلى بنائه من جديد" (حدود المدينة، 31 آذار/ مارس ـ 17 نيسان/ أبريل 1988). وفي هذا المقال يحدد كورنل وست معالم نوع مماثل من ما بعد الحداثة الثقافية الزنجية المتميزة (ويشير كل من وست وتوني موريسون إلى موَّال "بلوز" وموسيقا الجاز)، ما يعد مواجهة لما بعد الحداثة التي تناقش مسألة "أمركة العالم" وللنماذج الأوروبية الأقل تقدمية.