هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حرب خاطفة، هكذا أرادها حفتر، إلا أن الواقع خالف حساباته، فاصطدمت مخططاته وأحلامه بصلابة خطوط الدفاع على العاصمة، وخسرت قواته مواقع مهمة أبرزها غريان ولم تستطع تجاوز الضواحي الجنوبية لطرابلس منذ بداية عدوانه في إبريل الماضي، فعجزت عن تحقيق هدفها، وهو السيطرة على العاصمة التي هي مفتاح السيطرة على البلد بأكمله.
وتشير دلالة توقيت العدوان إلى عدم قبول حفتر بالحل السياسي المنتظر بانعقاد الملتقى الوطني الجامع وبمشاركة الأطراف الليبية المختلفة دون استثناء، والذي دعت إليه البعثة الأممية في غدامس وألقى المجتمع الدولي فيه بثقله الكامل لإنجاحه.
فقبل عشرة أيام من موعد الملتقى أطلق حفتر عمليته العسكرية لاجتياح العاصمة وتزامن ذلك مع زيارة الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريش"، مما يعتبر تحديا سافرا للمجتمع الدولي وضربة موجعة للمسار السياسي، ويدل بشكل واضح على رغبة حفتر في التفرد بحكم ليبيا عسكريا وعدم قبوله بأي تسوية سياسية، الأمر الذي يشكل عائقا للحديث عن أي تسوية مستقبلية يكون حفتر طرفا فيها، وهذا يستدعي من المجتمع الدولي إعادة النظر في آلياته السابقة التي تعامل بها مع معرقلي الحل السياسي، فالأمر يستلزم حزما دوليا قبل مرونة الأطراف الليبية بقبول بعضها بعضا دون إقصاء.
فشل اقتحام طرابلس والأرض المحروقة:
مشاهد استحواذ قوات الوفاق على عشرات الآليات والقبض على مئات من عناصر حفتر غرب العاصمة طرابلس واقتيادهم إلى مراكز الاحتجاز لم تكن مشاهد تمثيلية، بل مؤشرا واضحا على إخفاق حفتر في تحقيق نصر سريع، كما وعد في كلمته المسجلة قبل خمسة أشهر تقريبا، إضافة إلى أن قواته بين أسير وقتيل وغريق بالضواحي الجنوبية لطرابلس، وظلت قواته تراوح مكانها أحيانا وتتراجع أحايين أخرى بدلا من قيامها باستعراض النصر الموعود في ميدان الشهداء.
ضربة موجعة وهزيمة ساحقة تلقاها حفتر بخسارة غريان في ساعات، المدينة التي كانت مقرا لغرفة العمليات العسكرية ومنطلقا للهجوم على العاصمة، فرّت قواته وحاولت وسائل إعلامه امتصاص هزّات الهزيمة المروّعة والتغطية على فضيحة صواريخ جافلين التي أثبت تورط دول في دعم الاعتداء وتدخلها في الشأن الليبي، فلا شك أن استعادة غريان يعد انتصارا سياسيا على حفتر وحلفائه.
شهوة السلطة والحرب خيارها الوحيد:
وعلى الرغم من طول أمد الحرب إلى هذا الحد ومرور ساعات الصفر المتعددة على نغمات خطب حفتر الحماسية بغرض الإثارة الإعلامية والاستهلاك المحلي، فضلا عن استنزاف قواته بما في ذلك مرتزقة الجنجاويد السودانية، إلا أن حفتر ليس له خيار إلا التمسك بالحرب؛ فشهوة السلطة أكبر من مصير مقاتليه.
كما أنه يدرك أن العودة من طرابلس بخفي حنين تعني نهايته داخليا وعند حلفائه وعلى الساحة الدولية أيضا، وهذا ما يزيد من جنونه واتباعه لسياسة الأرض المحروقة التي سيدفع ثمنها الليبيين الآن وأكثر مستقبلا، فطالت نيرانه المدنيين والأحياء السكنية والمستشفيات، وباتت المنظمات الحقوقية الدولية وأخيرا البعثة الأممية في ليبيا تصف أعماله بغير القانونية وترتقي لجرائم حرب.
إحياء العملية السياسية:
رغم ضجيج الحرب، ألقى السراج حجرا في المياه السياسية الراكدة في منتصف حزيران/ يونيو الماضي، وأعقب مبادرته بتصريحات صحفية تفيد بأنه لن يجلس مجددا للحوار مع حفتر، ليرد الأخير بعد بضعة أيام بمقابلة صحفية مصطنعة، أكد خلالها أن العملية العسكرية تهدف إلى حل كافة الأجسام المنبثقة عن اتفاق الصخيرات.
هذا ليس بغريب أن يصدر عن طرفي الصراع بمنطق أن السياسة هي حرب بوسائل أخرى، وربما بالمنطق ذاته أعلنت القاهرة عن مبادرة لحل الأزمة الليبية، وهذا بلا شك ليس من مبدأ حرصها على ليبيا، بل لأن رهانها على الحسم العسكري قد فشل، وها هي تحاول تغيير أساليبها ورسم مشهد المفاوضات القادمة.
فالمبادرة المصرية تشكل هاجسا حقيقيا من حيث المنطلقات والتطلعات، وتظل مشدودة إلى الطرف المناوئ للحكومة الشرعية، وتحاول بثّ الروح في مجلس نواب طبرق وإعادة تأهيله لخوض غمار المعركة السياسية بالنظر إلى اصطفافها ودعمها اللامحدود له باعتباره ذراعها السياسي في ليبيا.
وفي أحسن الأحوال وبالنظر لما قد تحتويه مبادرة القاهرة من إيجابيات أو تطور في موقفها لا يمكن التعاطي معها كما هي، ليس لأنها منحازة سياسيًا لأحد الأطراف فقط، بل لاحتوائها مغالطات قانونية لن تؤسس لحل سليم بل ستؤدّي إلى نتيجة قابلة للطعن، خاصة في إصرارها على أن مجلس النواب هو الجسم التشريعي الوحيد المناط به اعتماد أي خارطة مستقبلية.
مجددا، كثف المبعوث الأممي لقاءاته بالفاعلين المحليين والدوليين، وكشف عن ملامح مراحل خطته لحل الأزمة، لتبدأ بهدنة خلال عيد الأضحى، يعقبها اجتماع دولي بمشاركة الدول ذات الصلة، ثم اجتماع للأطراف الليبية.
وتشير بعض المعلومات إلى أن ألمانيا ستفتح أبواب قاعاتها لاحتضان المؤتمر الدولي، ولإنجاحه يجب تحقيق توازن في القوى ليصل المؤتمر إلى نقطة وسط تمثل اتفاقا يدعم الحل السياسي القادم، فالمعركة بين أنصار حفتر والسراج الخارجيين لا تقل شراسة عن المعركة في محاور القتال، فلا ينبغي أن تُغيب عنه مصر والإمارات من جهة وتركيا وقطر من جهة أخرى إن أريد لهذا المؤتمر النجاح وحلحلة الأزمة، وإلا فإنه سيمثل فرصة ضائعة لا تختلف عن باريس وباليرمو.
عقدة الحل السياسي:
دون أدنى تفكير ولا تحامل، يمثل خليفة حفتر العقدة الأكبر التي عطلت المسار السياسي في ليبيا منذ ظهوره على قناة العربية قبل خمسة أعوام، ومن ثَم اختطافه لمجلس النواب ومعارضته للاتفاق السياسي ورفضه لمشروع الدستور، وأخيرا إفشاله للملتقى الوطني الجامع، ولكي يكون الوصف دقيقا فإن هذا المشهد يحتاج لمشهد آخر لتكتمل الصورة، يتمثل في الفاعلين الإقليميين والدوليين الرافضين لخيار التحول الديمقراطي في ليبيا، وإصرارهم على إبقائها تحت نظم الاستبداد والتخلف.
هذه الدول تتحرك بواجهات متعددة وفي مسارات مختلفة، فإلى جانب حفتر في المسار العسكري، هناك مسار سياسي يقوده رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، فهو أداة أخرى لعرقلة تسوية الصخيرات وعطلت منح الثقة لحكومة الوفاق وأجهزت على مشروع الدستور وتعرقل أي جهود تفضي إلى مقاربة للخلاص من حالة التشظي، كما برز مؤخرا الطامح لقيادة ليبيا عارف النايض، الذي تسعى بعض الدول لتنصيبه بالقوة رئيسا للحكومة الانتقالية القادمة.
مرتكزات الحل السياسي.. قناعة الأطراف بالحوار:
أبجديات فهم المشهد الليبي وطرق حل النزاعات يفترضان على الأطراف الداخلية المتصارعة وداعميها من الخارج أن تحتكم للحوار والتفاوض، فحل الأزمة لن يكون إلا سلميا على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، دون تجاهل أو إقصاء لأي طرف من أطراف الصراع، وهذا يتوقف على قناعته الصادقة بمسار الحل السياسي والتزامه قولا وعملا بهذا الخيار ومتطلباته، والتوقّف عن فرض الرأي بقوة السلاح والمراهنة على الحلول العسكرية، والتركيز على مساحة المشتركات الواسعة التي تجمع كافة الأطراف وتجنب الانفراد بالمشهد، والابتعاد عن وضع شروط تعجيزية تصل في النهاية بالحوار إلى طريق مسدود.
وهنا يأتي دور البعثة الأممية بأن تقرب بين وجهات نظر الأطراف المختلفة، وتصنع مقاربة متوازنة، وتتوافق عليها القوى الدولية الضامنة لتنفيذها، ويصادق عليها مجلس الأمن الدولي.
إيقاف التدخل الخارجي:
لا نكشف جديدا إن قلنا بأن ليبيا باتت مسرحا لأطماع ومؤامرات إقليمية ودولية، وليس من باب التشاؤم أن نقول بأن الحرب مستمرة باستمرار الخيارات الراهنة للدول المتدخلة فيها، ولن يكون هناك حل سياسي للأزمة الليبية إلا بإلجام تلك الدول من قبل مجلس الأمن بإيقاف تغذيتها للحرب وتعهدها بعدم التدخل السلبي في الشأن الليبي؛ لتسهم في وضع نهاية لهذه الحرب.
قرار مجلس الأمن 2259 الضمانة الأساسية:
قد يذهب البعض إلى البحث عن أية حلول للأزمة الراهنة خارج إطار الإعلان الدستوري المنظم لمسيرة الدولة والمجتمع معا، وهو مسار خطير لا يستند للقانون وسيدخل البلاد في مأزق جديد ودوامة من الطعون لا تنتهي.
وفي تقديري حل الأزمة لابد أن يؤسس على قاعدة اتفاق الصخيرات باعتباره التعديل الأخير للإعلان الدستوري المؤقت، والتسوية السياسية الأهم في تاريخ الأزمة والمعترف به دوليا بقرار مجلس الأمن 2259، وذلك للحفاظ على شرعية الحل السياسي للمشهد جديد، خاصة أن الصخيرات يخول بأحد مواده أطراف الحوار عقد لقاء استثنائي يعيدون النظر في الاتفاق حالة حدوث خرق جسيم، ومن الأجدى توسعة المشاركة قبل البدء في أية تعديلات لنصوصه، وهذا الخيار متاح بعد فشل آلية التعديل الأساسية بين مجلسي النواب والأعلى للدولة.
مرحلة انتقالية محددة المدة:
لا يختلف اثنان بأن المرحلة الانتقالية ذات طبيعة هشة ترتفع فيها حدة الاختلافات والتجاذبات وتكون عرضة للتدخلات والاختراقات، إلا أن السبيل الأسرع للخروج من الأزمة الراهنة هو الولوج في مرحلة انتقالية جديدة تكون قاطرة للحل وليس وسيلة لتوفيت الوقت وتضييعه، وذلك بوضع ميثاق وطني يطمئن جميع الشرائح ويقدم الأمل للمستقبل بخارطة طريق واضحة المعالم وبمدد زمنية محددة، تؤمن بها جميع الأطراف وتكرّس جهودها لإنجاحها بتوحيد المؤسسات السيادية، ودعم حكومة انتقالية مفصولة تماماً عن المجلس الرئاسي تتولى شؤون البلاد بنظام لامركزي، يتوفر من خلالها مناخ مستقر لتنظيم انتخابات عامة تحقق الانتقال الديمقراطي.
وأكرر -للأهمية- أن الحرب لن تنتهي مع استمرار الخيارات السياسية الراهنة للدول المتدخلة في الشأن الليبي التي تريد رسم المشهد على مزاجها ومقاس أتباعها وإن ذلك إلى الذهاب بالبلاد نحو "الصوملة"، مما يلقي على عاتق البعثة الأممية والمجتمع الدولي عبئا ثقيلا بفرض إجراءات حاسمة وصارمة على المتفاوضين وحلفائهم، لوقف الحرب وتخفيف معاناة الليبيين.
ما تزال الأيام حبلى لتكشف أن غاية طرح مبادرات الحل السياسي أهي مناورات لملء الفراغ الدبلوماسي وتخدير الليبيين والتلاعب بمصيرهم، أم هي تمهيد لولادة دولة ديمقراطية تحافظ على وحدة ترابها وشعبها؟