هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هل يمكن لرياضة كرة القدم أن تكون بديلا عن الثورة أو مكملا لها؟ سؤال ربما لم يطرح كثيرا من قبل على مستوى الأفكار، لكنه في الجزائر اليوم، بعد فوز الفريق الوطني لكرة القدم بالكأس الأفريقية الأخيرة التي احتضنتها القاهرة، وهو في قلب حراك سياسي وثوري مستمر منذ حوالي الخمسة أشهر، يصبح أكثر من ملح، خاصة أن الرهانات حول استغلال هذا الحدث الكروي سواء من السلطة الفعلية، أو أطراف الحراك المختلفة، صار واضحا إلى درجة يقترب في حدته من محاولة نظام مبارك استغلال تصفيات كأس العالم 2010 ومباراة الفصل بين الجزائر ومصر في أم درمان، لتمرير مشروع التوريث، لولا أن انتصرت وقتها الجزائر لينهار هذا المشروع وتندلع أحداث الثورة المصرية بعدها مباشرة.
الآن تلوح في سماء الجزائر مؤشرات مختلفة، فلقد انتصر الفريق الجزائري، واستقبل الشعب أبطاله في شبه حراك رياضي، لا يقل حشدا عن حراكه الثوري المتواصل، بل إن الصور التي رسمها الجزائريون عند استقبالهم الأبطال لم يسبق أن رسمت مثلها حتى بالنسبة للفائزين بكؤوس العالم، وهذا بحد ذاته يحمل قراءتين، الأولى تتحدث عن كون الكرة قد انتصرت على الثورة، وبالتالي فلن يكون بإمكان الحرك أن يعود بذات القوة التي كان عليها، أما الثانية فتقول العكس تماما، وبأن هذا دليل حيوية هذا الشعب ووعيه، وان الجزائريين يعطون لكل مقام مقال، وأن روح الثورة ستتعزز من جديد بانتصار الكرة.
الثورة والحرية والنصر
هي محددات ثلاثة، لمعادلة متكاملة في جدليات متناغمة، تقع اليوم بكامل حدتها في الشارع الجزائري، تماما كما وقعت قبل 29 سنة تقريبا حينما فازت الجزائر بأول كأس أفريقية لها عام 1990.
وقتها كانت الجزائر تمر بمخاض سياسي كبير وتحول عميق في بنية الدولة والمجتمع، فقد أنجزت انتفاضة الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) 1988، دستورا تعدديا لأول مرة في السنة الموالية 1989، أتاح فيه نظام الرئيس الشاذلي بن جديد لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة امكانية الخروج من دائرة الحزب الواحد الحاكم، إلى التعددية السياسية والإعلامية، قبل أن تتحول ظاهرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى نمط سياسي راديكالي لـ "المغالبة" بدل المطالبة، ومعها تتفجر مكبوتات المجتمع في اتجاه الإسلام الراديكالي، والحريات الكاملة، التي جعلت من الجزائريين وقتها، أول شعب عربي يدشن ربيعه العربي التحرري، مما مكنه من اكتشاف ذاته في مختلف المجالات، وعلى رأسها المجال الكروي، قبل أن يحدث النكوص والانقلاب على كل شيء في مطلع العام 1992..
ومن غرائب الصدف، أن تمر الجزائر اليوم وهي ترفع كأسها الأفريقية الثانية، بنفس الأوضاع السياسية تقريبا، بعد حراك شعبي أطاح بحكم بوتفليقة الذي استمر عقدين من الزمن، ومعه أطاح بمنظومة رهيبة من الفساد، حيث مكنت ثورة الشعب من سجن أبرز رموز نظام بوتفليقة من الفاسدين والمفسدين، ومنحت الشعب حريته في العودة إلى الشارع الذي ظل محظورا عليه منذ 2001، ليكتشف ذاته مجددا للمرة الثانية، عبر سلميته وحضاريته، وعبر هذا الانجاز الكبير في المجال الكروي أيضا.
فلسطين اليوم هي من فازت بالكأس الإفريقية والجزائر رفعتها فقط، ولو أتيح للجزائريين أن يعبروا الى أخوانهم ليتوجوهم أبطالا للعالم وليس لإفريقا فقط لفعلوا..
ما يؤكد هذه الحقيقة، أن الأغاني والأهازيج الكروية التي انطلقت من الملاعب، كانت هي أول الروافد المغذية للشعارات والهتافات السياسية، بينما كان أنصار الكرة في مقدمة الحراك بأهازيجهم التي تجلب خلفها مئات الآلاف من القوى المؤيدة والمرددة.
لقد شكل أنصار الكرة بديلا غير منتظر عن النخب المثقفة التي ظلت غارقة في السلبية و"الزبائنية" السياسية لمنظومة الحكم الفاسد، إلى الدرجة التي فقد فيه المجتمع الأمل في نخبه المثقفة في استنهاض الهمم وقيادة الجماهير ضد منظومات الفساد والطغيان، وقد تبين هذا بشكل واضح في غياب قيادات حقيقية للحراك الجزائري، ورفض الشعب بشكل قاطع محاولات تمثيل الحراك أو الحديث باسمه، بعد أن تبين له أن النخب المثقفة تواطأت بشكل أو بآخر مع ما كان يحصل في بلاده من دمار شامل.
من (يتنحاو قاع) الى (نربحوهم قاع)
ما يؤكد هذه الحقيقة، أن الشاب الذي تحول إلى أيقونة الثورة بسبب جملة عابرة قالها في تدخل عفوي في إحدى القنوات العربية (يتنحاو قاع) أو (يجب أن يتنحوا جميعا) هو شاب من شباب الملاعب والكرة، لا يحسن صياغة جملة صحيحة بالعربية، ومع ذلك فقد تفوق بعفويته على ترسانة المنظرين والمحللين في موضوع توجيه الحراك.
هذا الشباب الكروي/ الثوري، عندما رفع شعار (يتنحاو قاع)، وهو يقصد تنحي جميع رموز النظام البوتفليقي، بمن فيهم رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس المجلس الدستوري، حتى وهو لا يدرك صعوبات تحقيق ذلك من ناحية تجاوز الدستور وأحكامه، هو نفسه الشباب الذي خرج في بطولة كاس إفريقيا للأمم، ليردد شعارا مشابها (نربحوهم قاع) أي نربحهم وننتصر عليهم جميعا، وهو ما حصل بالفعل، لأن الروح الثورية كانت تسري على ما يبدو في اللاعبين، فانتقلت من ساحات الحراك بالجزائر إلى ساحات الملاعب.
الحراك سيعود للشارع
فماذا بعد انتصار الكرة وفرحة الجماهير؟ هل يعود الحراك السياسي إلى سابق عهده؟ يعتقد الصحافي الرياضي ياسين معلومي أنه بعد فرحة التتويج سيعود المواطن إلى حراكه الذي حسب رأيه انطلق من الملاعب التي تعبر عن تفكير ورغبة الشعب.
وأوضح ياسين معلومي لـ "عربي21"، أن فرحة التتويج تبقى لأيام معدودة ثم يعود المواطن لحراكه الذي قد يتأثر بالعطل والحرارة فقط، مذكرا بأن الإنجازات الكروية من زمان كانت تخرج الشعب إلى الشارع، وقد كانت البداية في مونديال 1982 ثم مونديال 1986، وكذا في الفوز بالكاس الأفريقية الأولى سنة 1990، وبعدها في تصفيات التأهل لكأسي العالم في 2010 و2014 والمشاركة فيها.
الحراك السياسي يحتاج إلى شخصيات نظيفة مثل بلماضي
في المقابل، يرجع الصحافي الرياضي ياسين بلمنور في تصريح لـ "عربي21" سر الاهتمام الكبير الذي حصل في الجزائر بتتويج المنتخب الجزائري بالكأس الأفريقية خاصة في ظروف الحراك الحالي، إلى عدة اسباب أهمها :
1 ـ إن هذا المنتخب يقوده مدرب جاء خليفة لمدرب آخر يعلم الجميع أن تعيينه جاء بأوامر فوقية من منظومة الحكم السابق، فضلا عن كون المدرب الحالي سبقته إنجازاته سواء على مستوى النوادي أو المنتخبات، وكان مطلبا شعبيا من خلال وسائل التواصل رغم تباطؤ الإدارة في انتدابه ولم تلجأ له إلا بعد استنفاذ كل الحلول والخيارات..
2 ـ هذا الاهتمام جاء بعد سنتين عجاف دخلت فيها الكرة الجزائرية النفق وزادها الفساد المالي الذي انتشر بشكل رهيب، حتى صار يضرب المثل بالفساد الجزائري في العالم كله .
3 ـ عقلية المدرب الحالي توافق سيكولوجية الفرد الجزائري الذي يبحث دائما عن شخصية نظيفة كارزماتية جعلت الناس تلتف حوله مع توالي النتائج وتغير طريقة اللعب..
4 ـ المستوى التصاعدي للمنتخب من مباراة لأخرى والروح القتالية التي أظهرها ولم تكن متوقعة بعد الذي فعله الفاشلون بالمنتخب جعل الغالبية تؤمن بأنه قادر على الوصول للتاج.
أما بخصوص المفاضلة الحاصلة حاليا بين الحراك السياسي والحراك الرياضي بعد التتويج، فيعبر ياسين بلمنور بكل صراحة عن اقتناعه أن الكرة أفضل من الحراك، ويفسر وجهة نظره تلك أنه عندما يكون على رأس الحراك شخصيات نظيفة مثل بلماضي سيصل هذا الحراك إلى مبتغاه، أما حاليا فهو بحسب رأيه فإن الحراك هو "ساحة بين فصيلين متنازعين" لا أكثر.
هكذا فازت فلسطين بكأس أفريقيا؟
ولأن اسم فلسطين ظل يتردد في الشارع كجزء من سنفونية الحرية العفوية التي يرددها الشارع الجزائري، لمواجهة نظام الفساد والاستبداد، ومعها ظلت الراية الفلسطينية تعانق أختها الجزائرية، في كل زاوية وركن من الجزائر الدولة والشعب، فإن فلسطين نفسها كانت في قلب كل الجزائريين الذين تنقلوا إلى القاهرة لتشجيع فريقهم، أو الذين احتفلوا بالانتصارات الرائعة عبر طول الجزائر وعرضها.
الرسالة كانت دائما واضحة من الجزائريين جميعا، حراكيين ورياضيين، أن فلسطين في القلب، وأن معركة الحرية في الجزائر من أجل التخلص من الديكتاتورية، لا يمكنها أن تكتمل من دون أن تتخلص فلسطين من الاستيطان والعبودية، إنها معادلة مترسخة وأبدية، يقابلها في الجانب الفلسطيني عموما، وأهلنا في غزة على وجه الخصوص، مشاعر حب هي الأكثر صدقا بين شعوب المعمورة، حتى أنك لا تميز أفراح الجزائريين بفوز الفريق الجزائري عن أفراح الفلسطينيين من حيث القوة والصدق.
نعم، فلسطين اليوم هي من فازت بالكأس الإفريقية والجزائر رفعتها فقط، ولو أتيح للجزائريين أن يعبروا الى أخوانهم ليتوجوهم أبطالا للعالم وليس لإفريقا فقط لفعلوا..
ويذكر الفسطينيون بكثير من الفخر والاعتزاز، كيف انفجرت حناجر جماهير ملعب الخامس من يوليو بالعاصمة الجزائرية فرحا بتسجيل هدف فلسطيني على مرمى فريقهم الجزائري، ذلك أن فلسطين حين تنتصر فإن الفائز هي الجزائر والعكس صحيح، وهذا هو سر الحراك والثورة، التي تظهرها الكرة ولا تغطيها، وتفجرها الرياضة ولا تلغيها.
إنها باختصار ثلاثية الثورة والحرية والنصر، ويوم تتحرر الجزائر ستكون فلسطين في الطريق، ويوم تتحرر فلسطين ستكون الأمة العربية كلها قد تحررت.
ولذلك حق لحراك ثوري ترفع فعالياته العلم الفلسطيني، وحراك رياضي يجعل من فلسطين نشيده الرسمي، أن لا يتوقف مفعوله عند حدود الجزائر.. لأن الهدف هو الحرية، والبوصلة دائما هي فلسطين.