بدت القضية لي غريبة، إلى أن وصلت إلى توجيه الاتهام لستة من المصريين بنشر المذهب الشيعي، فزالت الغرابة، وغابت الدهشة، فقد عادت العلاقات المصرية- الإيرانية إلى سالف العهد قبل ثورة يناير، فـ"يا ميت ندامة على اللي حب ولا طالشي"!
الحكم الذي صدر من محكمة الجنايات في مصر بدا لي مفاجئاً؛ ذلك بأننا لم نسمع عن القضية إلا بصدور الحكم بالسجن المؤيد لخمسة من المتهمين غيابيا، فلم يحضر سوى المتهم السادس، الذي صدر الحكم ضده بالسجن خمسة عشر سنة، وقد قضت المحكمة بغرامة قدرها مليون جنيه على كل متهم منهم.. ومصدر الغرابة هنا أننا لم نسمع عن هذه القضية من قبل، لكن إذا عُرف السبب بطل العجب، فالمحاكمة كانت سرية منذ بدايتها في شهر حزيران/ يونيو من العام الماضي، أي قبل سنة من الآن، ولا نعرف سبباً دفع المحكمة الموقرة إلى قرارها بفرض السرية، وفي كل قضايا التخابر السابقة كانت المحاكمة علانية، فما الجديد في هذه القضية؟!
التخابر مع دولة أجنبية:
الاتهام الموجه لأعضاء الخلية الستة، دار حول اتهامهم بالتخابر مع دولة أجنبية هي إيران؛ التي يعمل المتهمون لصالحها بقصد الإضرار بمركز مصر الحربي والسياسي وبمصالحها القومية (هكذا)، وأن من بينهم من هم على اتصال بالمسؤول عن الملف المصري بالحرس الثوري الإيراني.
هذه الاتهامات، التي تكفي في حال صحتها لقطع العلاقة بين البلدين. فلأول مرة يجري اتهام أحد في مصر بالتخابر مع طهران
وقد يدهش القارئ لمثل هذه الاتهامات، التي تكفي في حال صحتها لقطع العلاقة بين البلدين. فلأول مرة يجري اتهام أحد في مصر بالتخابر مع طهران، فكل المتهمين في السابق باتصالات ونحو ذلك.. كان الاتهام الموجه إليهم هو
التشيع، أو نشر المذهب الشيعي في البلاد، ولا يوجد في القوانين المصرية، ما يجعل من التشيع جريمة أو مخالفة قانونية، فالدستور المصري الذي ينص على أن مصر دولة إسلامية، لم يحدد المذهب، ولا ينص على أن مذهبها هو مذهب أهل السنة والجماعة، لكن إسباغ الشكل القانوني على مثل هذه القضايا كان يأخذ بعداً آخر؛ من خلال الاتهام بتلقي أموال من جهات أو أشخاص من الشيعة، ونحو ذلك!
وإذا كنا ندرك أن سلطة الانقلاب لن تذهب بعيداً، حد قطع العلاقات بشكل كامل، وقد تستخدم هذه القضية للابتزاز، لكنها كاشفة عن انتهاء شهر العسل بين الانقلاب العسكري في مصر، والقوم في طهران. ولا ننسى موالاة طهران للثورة المضادة التي أطاحت بالرئيس المنتخب، يحدوها الأمل في علاقات أفضل مع الجنرال، ولا أعرف من أين جاء هذا التوهم، والسيسي هو الامتداد العسكري لحكم مبارك، وضاع كل أمل لدى القوم في علاقة صداقة مع القاهرة، وهي آمال عريضة بدأت بنجاح الثورة وتنحي مبارك، ثم تبددت في عهد الرئيس محمد مرسي، الذي لم يكن راغباً في علاقة جيدة مع طهران؛ لأنه كان يتعرض لضغوط من السلفيين، فضلا عن أنه لم تكن في نيته أن يخسر السعودية بهذه العلاقة، ولا يريد أن يبدو أقل انحيازا لمذهبه من الفرق الدينية الأخرى. وعندما جاء الرئيس الإيراني للقاهرة تم تركه للثورة المضادة لتهينه، وتعرض له بعض السوقة والدهماء في زيارته للأزهر، ولم يكن يغيب عن فطنة أحد أن هذا تم بتحريض، حتى لا يحدث أي تقارب بين مصر وإيران، حتى شيخ الأزهر "الصوفي" قابل الرئيس في مقر المشيخة في برود، يفتقد للحصافة والدبلوماسية، وبهدف من خلاله لأن يؤكد للضيف الإيراني أنه غير مرغوب فيه!
وعندما سافر الرئيس إلى طهران، كان خطابه الذي بدأه بالسلام على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ إشارة واضحة إلى أنه ينطلق في علاقته بطهران من موقف عقدي، يمنع التقارب، ويقطع الشك باليقين، بأن في عهده لن يحدث تطور إيجابي في العلاقة بين البلدين.
الثورة الأم:
في اليوم التالي لتنحي مبارك، وعندما سئلت في مداخلة تلفزيونية عن مستقبل العلاقات المصرية الإيرانية، قلت: ينبغي أن تنتهي بالثورة مرحلة القطيعة، فلم تعد مبررة الآن، ووصفت الثورة الإيرانية بأنها الثورة الأم التي أسقطت الاستبداد الذي يحظى بالحماية الأمريكية، فأكد نجاحها قدرة الشعوب على فرض إرادتها!
كنت أعلم أن القطيعة في عهد مبارك لم يكن للمصلحة المصرية فيها نصيب، فقد ذكر لي رئيس حزب الأحرار الراحل الأستاذ "مصطفي كامل مراد"، أنه طلب من الرئيس مبارك أن يسمح لأحزاب المعارضة بزيارة طهران، فكان تعليقه:
- الأمريكان يزعلوا يا مصطفى!
فلما قال له: أخبر الأمريكان أن من يزورن طهران هم قادة المعارضة، ولا سلطان لك على الأحزاب، كان رده:
- لن يصدقوا، لأنهم يعرفون البئر وغطاه!
وفي عهد الرئيس محمد مرسي كتبت أطلب بمد جسور الصلة بإيران، بدلاً من أن يعتمد الرئيس على السعودية فقط، وهي لن ترضى عنه أبداً، مع استعداده لاستمرار العلاقة كما كان الحال في عهد مبارك. والإخوان بشكل عام لديهم ضعف تجاه المملكة؛ راجع إلى العلاقات التاريخية، مع أن الواقع غير الماضي، والملك عبد الله ليس هو الملك فيصل الذي يمثل جملة اعتراضية في تاريخ الدولة السعودية.
كنت أرى مؤامرة للاستمرار في إفساد السياحة، مما من شأنه حرمان مصر من رافد مهم لضخ العملة الأجنبية، وإنعاش البلد، وكان رأيي أن هناك مشروعاً للسياحة الدينية
كنت أرى مؤامرة للاستمرار في إفساد السياحة، مما من شأنه حرمان مصر من رافد مهم لضخ العملة الأجنبية، وإنعاش البلد، وكان رأيي أن هناك مشروعاً للسياحة الدينية، ولمزارات الدولة الفاطمية، وأن إيران تسعى لذلك منذ عهد مبارك، لكن الهجوم السلفي كان حاداً، وبتصوير المذهب السني بالضعف؛ بحيث يزعزعه وجود سائح شيعي في مصر، وكأن المذهب الشيعي ينتقل بالعدوى، وكأن السياح يمارسون التبشير في بضعة أيام، وهو ما لم يتحقق للدولة الفاطمية، التي غادرت مصر وليس لها أثر يُذكر سوى طقوس الموالد والاحتفالات!
كان السلفيون يريدون أن يحشروا النظام في الأنبوب السعودي، وقد كان، فخسر طهران ولم يكسب السعودية، فكان التوافق بينهما بدون اتفاق على الترحيب بعزل الرئيس المنتخب. وعاش الإيرانيون اللحظة، وقد ترك الانقلاب العسكري بعض عناصر النخبة المصرية يتوافدون إلى إيران، وبعض الشيوخ ومنتحلي الصفة، فزارها الشيخ أحمد كريمة، كما زارها ميزو الذي تم توقيفه في مطار القاهرة في آخر زيارة له طهران، فوقفت على أن شهر العسل قد انتهى!
كان الاتهام في قضية فتح السجون موجهاً لحزب الله والحرس الثوري الإيراني، بجانب حماس، فإن الانقلاب حذف حزب الله والحرس الإيراني من القاموس، وبقيت حماس فقط هي المتهمة
وإذا كان الاتهام في قضية فتح السجون موجهاً لحزب الله والحرس الثوري الإيراني، بجانب حماس، فإن الانقلاب حذف حزب الله والحرس الإيراني من القاموس، وبقيت حماس فقط هي المتهمة، وهو ما أكد أن علاقة جديدة تنشأ، وأن صفحة سابقة تطوى، لكن من جديد يعود الاتهام بنشر المذهب الشيعي، فيؤكد أنه لا جديد تحت الشمس!
لقد جاء في الخبر المنشور، أن جسم الجريمة في القضية هو إصدار مؤلفات، وإطلاق موقع الكتروني، والعمل على إنشاء مركز لنشر المذهب الشيعي، عندئذ أدركت أن التخابر، وقصد الإضرار بمركز مصر الحربي والسياسي وبمصالحها القومية، هو لغو لتوقيع العقوبة واستيفاء الشكل القانوني للقضية.
لقد انتهى شهر العسل سريعاً.. وكما غنى الفنان محمد العزبي: "يا ميت ندامة على اللي حب ولا طالشي".