عرفت
تونس خلال مرحلتي المرحوم بورقيبة والمخلوع ابن علي؛ نظاما رئاسيا هو أقرب إلى "الجملوكية" التي ليس فيها من النظام الجمهوري إلا الاسم والادعاء الذاتي، كما شهد التونسيون منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا تشكل برلمانات هي في الحقيقة مجرد عنصر من عناصر
الديمقراطية الصورية؛ الي تشتغل على مقاس "الزعيم" ومصالحه الجهوية والعائلية، وما يرتبط بها من شبكات زبونية عابرة للأيديولوجيات والجهات. وكان من الطبيعي أن يتوافق التونسيون بعد
الثورة على الانعتاق من النظام الرئاسي، وعلى جعل مركز السلطة في المجلس التشريعي، وما ينبثق عنه من حكومات تتشكل على قاعدة النتائج الانتخابية. وقد كان ذلك النظام الجديد هو النظام البرلماني المعدّل الذي اعتبره التونسيون خطوة نحو تفكيك بنية
الاستبداد والزعاماتية الكاذبة، ولكنه تحوّل (لأسباب تتعلق بالنظام ذاته، وأخرى تتعلق بتوازنات"الضعف" بين النخب الحزبية) إلى مظهر من مظاهر الأزمة العامة التي تخترق الحقل السياسي.
بدأت أزمة النظام السياسي التونسي الجديد عندما قرّر السيد الباجي قائد السبسي (وهو زعيم حركة نداء تونس، التي كانت الواجهة الأهم لورثة المنظومة القديمة وللقوى الفرانكفونية المعادية للثورة والمريضة بالإسلاموفوبيا)، أن يترشح لرئاسة الجمهورية في
انتخابات 2014، عوض الترشح في الانتخابات البرلمانية وقيادة الحكومة بعد الفوز المتوقع لحزبه في الانتخابات التشريعية. ورغم محدودية صلاحيات رئيس الجمهورية مقارنة بصلاحيات رئيس الحكومة، فإنّ قرار زعيم نداء تونس كان بعيدا عن البحث عن "الزهد" في السلطة أو عن مجرد "الإشباع النفسي". لم يكن السيد قائد السبسي بموقفه ذاك يعبّر عن استراتيجية شخصية، بل كانت مصالحه الشخصية والعائلية تتقاطع موضوعيا مع استراتيجية النواة الجهوية الصلبة لمنظومة الحكم السابقة، التي تهدف إلى إعادة التموقع والانتشار بعد صدمة الحدث الثوري، وما مثلته من تهديدات جدية لمصالحها المادية والرمزية.
لقد كانت القوى المؤيدة للسيد الباجي قائد السبسي تطمع إلى توظيف زعامته التي لا ينازع فيها وشرعيته الانتخابية (بحكم أن انتخابه تمّ عبر الاقتراع الشعبي المباشر) في السيطرة على رئاستي الحكومة والبرلمان، وهو ما سيجعل السيد الباجي (بفضل نفوذه ورمزيته الجامعة) يجلس في مرحلة أولى على رأس نظام رئاسي بحكم الواقع لا بحكم الدستور. ولكنّ ذلك الوضع لم يكن في استراتيجية غرفة العمليات الجهوية- المالية- الأمنية إلا وضعا انتقاليا مؤقتا؛ سيعقبه في مرحلة ثانية تقديم مبادرة تشريعية لتعديل الدستور وإرجاع البلاد إلى من النظام الرئاسي.
ورغم فشل السيد قائد السبسي في تحقيق التعديل الدستوري، ورغم التمرد الصريح من طرف رئيس الوزراء في القصبة على تعليمات قرطاج، فإن ذلك كله لم يعن في الواقع فشل استراتيجية غرفة العمليات الجهوية، بل منتهى ما يعنيه هو تحوّلها من المخطط "ألف" إلى المخطط "باء". فغياب أي مشروع وطني جامع يتجاوز الصراعات الهووية بين الإسلاميين والعلمانيين، قد وفّر لغرفة العمليات الجهوية فرصة لتعديل استراتيجياتها، انطلاقا من قدراتها التوسطية أو التحكيمية بين مركزي النفوذ، اللذين ما زالا تابعَين لها جهويا وخاضعَين لها سياسيا.
لعلّ من أبرز مظاهر مكر العقل في التاريخ (أو مكر الدوغمائيات بأصحابها) أن كل السرديات الكبرى المتصارعة (خاصة منها السرديات اليسارية والإسلامية التي تدعي حمل مشاريع تتجاوز فضاء الدولة– الأمة البورقيبي)، قد وجدت أنفسها في خدمة "مشروع جهوي" مصاغ مجازيا بمفردات الوطنية والحداثة و"الأمّة"، إنه ذلك المشروع الذي عاد لقيادة الثورة المجهضة، بعد أن ارتضت السرديات الكبرى (رغم كل ادعاءاتها ومزايداتها) بأن تكون مجرد ملحقات وظيفية بمراكز القوى داخل المركّب الجهوي- المالي- الأمني المهيمن على تونس، منذ تأسيس الدولة "الفرنكو-جهوية" المسمّاة مجازا دولة وطنية. فرغم انحدار أغلب ممثلي اليسار السياسي والنقابي، وأغلب قيادات حركة النهضة من المناطق التي عانت تاريخيا من سياسات التهميش والتمييز السلبي، فإن هؤلاء جميعا قد كانوا بعد الثورة (تارة باسم الدفاع عن النمط المجتمعي، وتارة أخرى باسم التوافق والسلم الأهلية)، مجرد طوابير خامسة في خدمة المنظومة القديمة وسياساتها الرامية إلى إعادة التموضع والانتشار.
ولا شكّ عندنا في أن الخطوة الأولى للتحرر من ترسبات الاستبداد وواجهاته الجديدة هي التحرر من نظام التسمية؛ الذي وضعته منظومة الحكم في لحظتيها الدستورية والتجمعية، وهو تحرر يجب ألا يشتغل على المفاهيم فقط، بل يجب أن ينفتح على المخيال الجمعي بمجازاته وأساطيره التأسيسية. كما لا شك عندنا في أن الاعتراض المركزي الذي قد يوجه إلينا؛ هو تهمة "الجهوية المضادة" أو ضرب الوحدة الوطنية. وهو اعتراض متهافت من جهتين:
- أولا إن البنية الجهوية للسلطة في تونس هي واقع موضوعي، ولا ينازع فيه إلا المستفيدون منه بالأصل أو بالمنطق الزبوني؛ إذ يكفي للتدليل على البعد الوصفي لهذه الأطروحة أن نتذكر عدد الرؤساء ورؤساء الوزراء من خارج الساحل وبلدية العاصمة قبل الثورة وبعدها، كما يكفي أيضا لإثبات قوة هذه البنية التسلطية وقدرتها "التكيفية"، أن ننظر في المنحدر الجهوي للرئاسات الثلاث بعد سنوات من الثورة. ولا تعني الإشارة إلى البنية الجهوية للسلطة أننا محكومون بنزعة جهوية مضادة، أو بأي عداء لسكان الساحل أو البلدية، بل منتهى ما تعنيه هو التنبيه إلى واقع موضوعي، قد كان أغلب سكان الساحل والعاصمة أول ضحاياه، لأن النواة الصلبة لمنظومة الحكم "لا رحم لها" إلا مصالحها ومصالح من أوكلوا إليها إدارة التبعية والتخلف وإعادة إنتاجهما.
- ثانيا إنّ التنبيه إلى النواة الجهوية للسلطة هو خطوة ضرورية لبناء مشروع وطني حقيقي؛ يتجاوز أساطير النمط المجتمع التونسي، باعتبارها مجرة استعارات كبرى للتغطية على البنية الجهوية- الزبونية للنظام، ويتجاوز أيضا السرديات الأيديولوجية الكبرى، باعتبارها حليفا موضوعيا لتلك البنية رغم كل ادعاءاتها. إنه مشروع ينطلق من الوعي بأنّ الجمهورية الثانية لا يمكن أن تتأسس إلا على أسس أكثر عدلا و"عقلانية" للسلطة والثروة. ولا شكّ في أن الغالبية العظمى من أهل الساحل ومن سكان العاصمة (أو حتى بلديتها) مقصيّون من أجهزة الحكم، ومن مصادر تحصيل الثروة، وهو ما يعني في التحليل الأخير، أن نقض البنية الجهوية للسلطة هو خطوة تقدمية نحو بنية وطنية للسلطة تقطع مع الامتيازات الجهوية من جهة أولى، ومع المنطق "الزبوني" للأيديولوجيات من جهة ثانية.
إن نجاح المركّب الجهوي- المالي- الأمني في استعادة السلطة بعد الثورة (بل في إدارة المرحلة التأسيسية ذاتها بقيادة الباجي قائد السبسي وعياض بن عاشور، وبإشراف من "صانع الرؤساء" المعروف بشوفينيته الجهوية) ليس دليلا على قوة هذا المركّب و"عقلانيته" فقط، بل هو أيضا دليلا على انعدام المشاريع البديلة التي تتحرك في مستوى وطني حقيقي. فقد أثبت الإسلاميون والحداثيون بعد الثورة أنهم مجرد "جماعات وظيفية"، تستثمر الإيديولوجي في خدمة المنظومة ذاتها، وفي تقوية شروط التفاوض معها، ولا تستثمره لنسف تلك المنظومة وتقديم بدائل "مواطنية" لها، أي تشكيل "كتلة تاريخية" تتجاوز الصراعات الهووية؛ التي لا يستفيد منها واقعيا إلا المهيمنون على الثروات المادية والرمزية.
ختاما، قد يكون من المهم، لفهم بنية السلطة ومنطقها الخفي، أن نطرح السؤال التالي: لماذا فشلت تلك المبادرة التشريعية التي قدمها بعض النواب لتجريم "الجهوية" (رغم أنها واقع موضوعي وظاهرة اجتماعية- اقتصادية يمكن التدليل عليها إحصائيا في الطابع "الجهوي" للسلطة والثروة في تونس)، ولماذا نجحت مبادرة تجريم "العنصرية"، وتحولت إلى قانون (رغم أنها ظاهرة هامشية ولا تمس إلا فئات محدودة من الشعب التونسي)؟
إن طرح هذا السؤال، لا يعني تتفيه قضية العنصرية ولا ينفي ضرورة مواجهتها، ولكنه سؤال يريد فقط أن يكشف عن وجه من وجوه اشتغال الحقل السياسي التونسي بعد الثورة. فإذا كانت المجتمعات، كما قال كارل ماركس: "لا تطرح من الأسئلة إلا ما تستطيع الإجابة عنها"، فإن النخب السياسية بيمينها ويسارها لا تطرح من الأسئلة ومن المبادرات التشريعية، إلا ما تستطيع النواة الصلبة للحكم أن تجيب عنه، وأن توظفه لتكريس هيمنتها في ظل غياب أي مشروع مواطني اجتماعي حقيقي. وفي ظل تشرذم المعارضة وعجرها عن تشكيل جبهة انتخابية وطنية، فلن يتغير شيء في الواقع السلطوي التونسي بعد نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة. فما دام أهم الوافدين عليه من اليسار واليمين يخدمون المنظومة القديمة بـ"التوافق" حينا وبـ"قطع الطريق" حينا آخر، يبدو من المحال في المدى المنظور أن تتخلخل منظومة الحكم، أو أن تتخلص من طبيعتها الجهوية المحمية بأساطير النمط المجتمعي التونسي من جهة أولى، والمحمية من جهة ثانية بالسرديات الأيديولوجية الكبرى، بعد "تَونستها" على مقاس النواة الصلبة للحكم.