يرجع السبب الرئيسي في الهجرة إلى أوروبا أو دول الغرب عموما؛ إلى السعي للحصول على عمل لكسب المال الوفير المطلوب للعيش في مستوى معين. وهناك أسباب أخرى لا تقل أهمية عن هذا السبب، منها الهجرة لأوروبا لطلب العلم، حيث تعد أوروبا من أولى مناطق العالم من حيث ارتفاع نسبة التعليم لديها، لذلك يهاجر إليها معظم الطلاب للحصول على التفوق العلمي في جميع المجالات، سواء الطب أو الهندسة أو المجالات الأخرى، مما يجعلها مطلبا لكل من يريد الحصول على أعلى المستويات في التعليم.. أو أسباب تتعلق بالحريات والحياة الديمقراطية، فالسبب الرئيس في تزايد ظاهرة الحلم بالسفر خلال العقود الأخيرة يعود إلى فشل الحكومات المتعاقبة، والأنظمة البيروقيراطية الفاسدة، وانعدام التداول السلمي للسلطة، والتعايش السلمي بين طوائف المجتمع في كل بلدانا العربية.
فمنذ بداية الثورات العربية عام 2010 وحدوث إخفاقات جسيمة في منظومة الحريات والعيش السلمي، بالقتل، والاعتقالات، والحروب الدامية، تفجرت أكبر موجة من المهاجرين منذ الحرب العالمية الثانية.
تصاعد
اليمين المتطرف في أوروبا
ويأتي تصاعد اليمين المتطرف ونيله نصيبا لا بأس به من السلطة في العديد من الدول الأوروبية؛ في أعقاب تزايد حدة المطالبات بإخراج اللاجئين والمهاجرين بالقوة من أوروبا، خصوصا في ألمانيا واليونان، على إثر تواصل هجرات اللاجئين السوريين الهاربين من ويلات الحرب، وتزايد أعداد طالبي اللجوء من دول أفريقيا وآسيا الفقيرة، بالتزامن مع تراجع الأوضاع الاقتصادية في عدد من البلدان الأوروبية، وارتفاع نسب البطالة.
لقد أصبحت هذه الأحزاب ذات ثقل شعبي معتبر، وطرفا ثابتا في المعادلات الانتخابية، وفاعلا سياسيا يتزايد تأثيره في صياغة الرأي العام الأوروبي، خاصة بعد تفشى ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وموجات الإرهاب التي تضرب المدن الأوروبية.
ولا تجرؤ هذه الأحزاب عادة على المطالبة الصريحة بنظام مؤسسي غير ديمقراطي، لكن أبرز قواسمها المشتركة هو نفورها من النظام الديمقراطي وعداؤها للطبقة السياسية التقليدية، وتميل غالبا إلى تبني خيارات "نيوليبرالية". فهي تمثل منحى جديدا في السياسة العالمية، بأفكار تعارض أي دور للدولة في إعادة توزيع الثروة، أو توجيه دفة الاقتصاد، كما تتجلى نزعتها اليمينية عبر صراعها مع قوى اليسار السياسي.
هل يرتبط تقدم اليمين المتطرف الأوروبي بخطاب المهاجرين؟
يرى اليمين المتطرف الأوروبي أن هوية أوروبا مهددة من قبل اللاجئين، وبالغت حركات اليمين في "الخطر الثقافي" الذي يهدد أوروبا. ولقد فاقمت العمليات الإرهابية التي قامت بها تنظيمات إسلامية متطرفة في أوروبا، وخاصة في البلاد الأكثر إستقبالا للاجئين، المصاعب التي تترتب على اللجوء، والتي لم تتداركها الحكومات في بداية الأمر، ما شكل وقودا لهذه الأحزاب؛ من أجل كسب مزيد من الأصوات في صناديق الاقتراع. وبحسب العديد من الخبراء والمراقبين، فإن تركيز برامج الدعايا الحزبية للحركات اليمينية على خطر المهاجرين، وعلى خطر
المسلمين، ساهم بشكل كبير جدا في استعادة أوروبا كثير من النزعات القومية والعنصرية تجاه الأجانب، وأعاد إحياء الكثير من المطالبات التي ماتت منذ زمن طويل.
كانت تخوفات العديد من المراقبين أن "الكارثة الكبري" ستحدث إذا استطاعت الحكومات الجديدة في عموم أوروبا، بالتعاون مع اليمين المتطرف الصاعد، التحول إلى سياسات أكثر عنفا تجاه اللاجئين، واستهدافهم بشكل فيزيائي ومعنوي داخل الاتحاد الأوروبي (بالتمييز)، الأمر الذي سيكون من شأنه تعريض وجود المسلمين في القارة إلى خطر حقيقي، وهو ما يحدث الآن.
الأصولية النمساوية تقود الاتحاد الأوروبي
تخطى اليمين الحواجز لتحقيق أحلامه القديمة، لدرجة أن أحزابا، في النمسا على سبيل المثال، استعادت نعرات نازية في سبيل التصدي للمهاجرين، ونجحت في تشكيل ائتلاف حكومي بين يمين الوسط واليمين المتطرف، فلم يعد يلمس الناخب النمساوي المسلم وجود أي فروق في البروباجاندا
العنصرية الممنهجة للفريقين ضده، وهو ما ألحق الضرر بالمكاسب الدستورية للمسلمين، والتي حصلنا عليها منذ أكثر من 100 عام؛ تحقق من خلالها تواجد حقيقي للمسلمين، في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بشكل فعال ومتفوق على مثيلاتها من الدول الأوروبية.
تقليص المكتسبات
فهناك نية مبيتة من تلك الأحزاب لتقليص هذه المكتسبات، وأصبحت مناهضة الحجاب، والتضيق على المرأة المسلمة، حديثا لا ينقطع من منصات الميديا، وتشريعات الحكومة، برزت العنصرية والتمييز بحق المسلمات وحرية ارتداء ملبسهن؛ بمنع ارتداء "النقاب" في الأماكن العامة منذ تشرين الأول/ أكتوبر2017. وقضت المحكمة العليا بأن منع العاملين من ارتداء النقاب في العمل أيضا لا يعتبر تمييزا عنصريا، ويحق لصاحب العمل فصل الموظف إذا كان رداؤه يعيق التواصل. والقرار جاء بعد أن رفعت امرأة ترتدي العباءة والحجاب دعوى تتهم فيها صاحب العمل بفصلها تعسفيا، بعد أن أخبرته بأنها ترغب في ارتداء النقاب. ورأت المحكمة أن فصلها عن العمل ليس عملا عنصريا؛ لأن ارتداءها النقاب سيعيق تواصلها مع الآخرين.
وقررت المحكمة أن يُصرف لها مبلغ 1200 يورو كتعويض، بدلا من 7000 يورو كانت تطالب بها. والجدير بالذكر أن هذه الخطوة تأتي كخطوة استباقية للحد من ارتداء الحجاب في الأعمال الوظيفية، وبالفعل بدأ منع ارتداء الحجاب بمدارس المراحل الابتدائية.
ومن المعروف سلفا أن من ترتدي الحجاب لن تجد عملا ملائما، وفي أفضل الظروف لن تعمل في أي مهنة تتواصل فيها مع الجمهور، مما أدى لخلع العديد من الشابات الحجاب بشكل كلي، أو عند الدخول لأماكن العمل بشكل مؤقت، وذلك لضرورات العمل القهرية والدراسة.
العنصرية الممنهجة ضد المسلمين
تقوم الدعاية السوداء للأحزاب اليمينية المتطرفة على مفهوم الوطنية من منظور عرقي "عنصري"، وترسيخ فكرة المواطنة على أساس القرابة الدموية، كما يمتاز الخطاب الدعائي الشعبوي لدى هذه الأحزاب بصياغته العدوانية، ونزعته الإقصائية؛ التي تكشف طبيعته الشوفينية (سمو الجنس الأصلي للبلاد)، وتنحو بنشاطاتها منحى شعبويا ديماغوجيا في الشكل والمحتوى ضد الأجانب بشكل عام، والمسلمين بشكل خاص.. فتظهر رغبتها القوية في الصدام وتقزيم القوى السياسية التقليدية، وسعيها الدائم لاستغلال مشاعر القلق المعيشي، والتذمر من الأعباء الاقتصادية، والضرائب المتزايدة للنظام الرأسمالي العالمي، لدى المواطن العادي. وعندما بزغت مشكلة اللجوء والهجرة، اتخذت منها ذريعة للتحريض ضد المهاجرين والأقليات؛ المحور المركزي لاستراتيجيتها الدعائية ضد المسلمين.
تصدير أزماتهم السياسية
تلتقي هذه الجماعات المتناثرة في العالم الغربي على معاداة الإسلام والمسلمين، وتسعى إلى إقناع المجتمعات الأوروبية بأن المهاجرين المسلمين هم سبب الأزمات التي تعيشها. وتعمل هذه الأحزتب على استقطاب الملايين عبر منصات التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام التابعة لها، وتتصيد كل ما من شأنه تشويه صورة المهاجرين وربطهم بالإسلام كأيديولوجية تعادي الثقافة والحياة الغربية، فعملت على متابعة كل ما يجري من أحداث، والعمل على تضخيمها، حتى وإن كانت بسيطة جدا ويرتكبها الفرد العادي الذي يواكب الحياة المعيشية اليومية.
استغلال الإسلاموفوبيا
هذا الهاجس الذي أطل على المسلمين في أوروبا من نوافذ إعلامية لا تبتعد كثيرا عن منهج الصهيونية العالمية في تعاملها مع المسلمين؛ يتجلى في ما يعرف بالإسلاموفوبيا، حتى أن الأحزاب المتطرفة ذهبت بعيدا لاقتراح منع المسلمين بالخصوص من الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي، وغلق الأبواب بوجوههم نهائيا، وهو ما جاءت ترجمته في مواقف ترامب تجاه العالم الإسلامي بعد انتخابه مباشرة.
لذلك، وجد المسلمون الهاربون من جحيم الحروب والقتل؛ أنفسهم في موقع الاتهام والتمييز في كل مشكلة تحدث في البلاد المضيفة، ومع كل هجوم إرهابي يعمد اليمين الأوروبي لتحميلهم المسؤولية، عن طريق التعبئة الأيديولوجية وإثارة إشكالات عقدية ثقافية عبر وسائل الإعلام المختلفة، فتتحدث الأحزاب اليمينية بشكل غير علمي ومبتور عن العنف في الإسلام و"الإرهاب الإسلامي"، وعدم قابلية الإسلام للاندماج مع الثقافات الأوروبية، ورفض الإسلام للعلمانية، ومعارضة القيم الإسلامية للحريات والثقافة الأوروبية.
الإرهاب العنصري في مذبحة نيوزيلندا
لا يمكن اعتبار هذه الجريمة الإرهابية التي قام بها الأسترالي "برنتون تارانت" في مدينة كريست تشيرش بنيوزيلندا، البلد الهادئ المسالم.. لا يمكن اعتبارها تمثل حالة فردية، بل هي ترجمة ميدانية لهذا السم الزعاف الذي يضخه اليمين المتطرف في نفوس الشباب، والمتغلغل في خطابه الشعبوي المتصاعد عالميا.
لا شك في أن مسؤولية هذا الهجوم الغادر لا تعود فقط على مرتكبيه، بل تعود بنفس المستوى على السياسيين، والإعلام الذي يحرض على العداء ضد الإسلام، والكراهية المتصاعدة بشكل كبير في الغرب. لم تتمكن السلطات النيوزيلندية من اختراق الجماعات اليمينية الإرهابية المسيحية النيوزيلندية، لتعمل على المراقبة الأمنية لهذا التطرف المعلن منذ سنوات على منصات التواصل الاجتماعي، جهارا نهارا، ضد المسلمين المسالمين.
خطاب
الكراهية هذا عبّر عنه الإرهابي المنفذ للجريمة غير المسبوقة بحق الأبرياء في مسجدي نيوزيلندا وعبر البث المباشر، وبأريحية لم يسبق لها مثيلا، من خلال ما صرح به مرارا وتكرارا من أن "المسلمين يمثلون احتلالا خارجيا لنيوزيلندا".
والخطاب المقيت منتشر في أوروبا وحتى أمريكا وكندا، وهناك أفلام وكتب تدور حول هذه الفرية الكبرى، لكن لم يصدر من رجال دين مسيحيين مَن يبرئون المسيحية من هذا الفعل المشين كونه عملا فرديا لا يمثل مسيحيي العالم! ولا مظاهرات عالمية من قبل الحكام والشعوب، كما فعلوا بعد هجوم "شارلي إيبدو"!
حرب جديدة
يعكس احتفاء هذا الإرهابي بفعلته وبأسماء مجرمي الحرب، مثل جلادي مسلمي البوسنة، مدى تأثر هذه الجماعات الإرهابية بالبغض العنصري والنازي فى أوروبا والغرب، والذي قد صار متأصلا، وربما قد صار بالفعل خارج السيطرة الأمنية. ومن المؤكد أن هذه الجريمة الإرهابية المؤدلجة لن تكون الأخيرة، وتدشن لحرب جديدة يعلم الله وحده عواقبها على كل بلدان العالم.