7شهدت الجزائر على مدى سنوات مضت حراكات احتجاجية مطلبية عديدة، حيث بلغ عدد الاحتجاجات عام 2017 قرابة 12 ألف احتجاج، وهو ما استمر خلال 2018، لكن ثمة توافق على أن الحركة الاحتجاجية الحالية التي انطلقت منذ 22 شباط/ فبراير الماضي مختلفة في طبيعتها وفاعليها وأهدافها وسعة انتشارها.
ورغم أن الاحتجاجات المطلبية العمالية والفئوية والقطاعية السابقة كانت محددة بأبعاد اجتماعية اقتصادية صريحة، إلا أنها شكلت مادة أساسية للحركة الاحتجاجية الراهنة؛ التي تربط الأبعاد الاقتصادية الاجتماعية بالأزمة الهيكلية للدولة وبنية القرارات السياسية.
عامل الاستقرار
لم يكن إعلان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في 10 شباط/ فبراير الماضي أنه سوف يترشّح لولاية رئاسية جديدة ويخوض الانتخابات المقبلة المزمع إجراؤئها في 18 نيسان/ أبريل المقبل؛ مفاجئا لمؤيديه ودائرته المقربة، فقد انطلقت حملة تأييد ترشحه لولاية جديدة منذ أشهر داخل الأحزاب الثلاثة التي يتشكّل منها التحالف الرئاسي في الجزائر، على الرغم من تنامي القلق حيال صحته بعدما تعرّض لجلطة دماغية في عام 2013، والتي حدّت بشكل كبير من ظهوره إلى العلن. لكن المفاجأة كانت صادمة من حجم الرفض الشعبي والحركة الشعبية الاحتجاجية الواسعة، فضلا عن انضمام المعارضة التقليدية على نطاق واسع برفض ترشّح بوتفليقة، والتعبير عن قلقها تجاه الإصرار على تمرير ولاية خامسة، الأمر الذي يشكل تهديدا وجوديا على الدولة الجزائرية.
المفاجأة كانت صادمة من حجم الرفض الشعبي والحركة الشعبية الاحتجاجية الواسعة، فضلا عن انضمام المعارضة التقليدية على نطاق واسع برفض ترشّح بوتفليقة
إحدى مفارقات الحالة الجزائرية أن الرجل التوافقي الذي جلب السلم الأهلي والاستقرار؛ بات خلافيا، ويشكل "تهديدا وجوديا على الدولة الجزائرية"، حسب المعارضة.
ومن المهم فهم الظروف التي وصل بموجبها بوتفليقة إلى الحكم في المقام الأول، وكيف أن رئاسته التي
دامت لعقود من الزمن حدّدت منذ ذلك الحين معالم السياسة الجزائرية. وحسب زين العابدين غبولي، فمنذ استلامه دفة الحكم في عام 1999 وسط اضطرابات سياسية حادة وحرب أهلية، لطالما اعتُبر عبد العزيز بوتفليقة رجل التوافق السياسي. فخلال ولايته الأولى، نجح في الحفاظ على التوازن بين مختلف أصحاب النفوذ في الجزائر (أي الجيش والرئاسة والإسلاميون ومجتمع الأعمال). وقد سمحت له هذه القدرة أيضا باكتساب دعم واسع النطاق نسبيا من المجتمع الجزائري، لا سيما وسط انتهاء الحرب الأهلية التي أودت بحياة نحو 200 ألف شخص في عهده. لكن ما يوضحه مسعى الإصرار على ولاية خامسة لبوتفليقة هو أن النظام السياسي الجزائري الحالي عاجز عن التوصل إلى بديل، أو حتى تجديد طبقته من النخبة. فواقع أن التحالف الرئاسي الذي كان يسعى لولاية خامسة منذ عدة أشهر؛ يثبت أن بوتفليقة هو الخيار الصالح الوحيد للنظام من أجل الحفاظ على ما تبقى من الإجماع السياسي الذي سمح في المقام الأول للرئيس بتولي السلطة.
خلفيات عميقة
خلفيات الاحتجاجات الجزائرية الراهنة لا تختلف بنيويا عن الحراكات الاحتجاجية العربية، التي ترتبط بجوهر النظام الاجتماعي في المنطقة وأنماط تراكم رأس المال، وبنية الطبقة والدولة، وعلاقة ذلك كله مع الرأسمالية العالمية. فالثيمة المشتركة للانتفاضات العربية، حسب آدم هنية، أنّ الحركات الشعبية جسّدت ما هو أكثر بكثير من إطاحة الطغاة المكروهين. والتركيز على المظهر السطحي للتظاهرات يحجب فحواها الحقيقي، "فالمعركة ضد الاستبداد السياسي مرتبطة حتما بديناميكية الصراع الطبقي. وبذلك لم تعكس هذه الانتفاضات مجرد أزمة تتعلق بشرعية النظام أو قلقا على الحرية السياسية وحسب، إنما كانت في جذورها، تواجه نتائج التطور الرأسمالي بحد ذاته". فالأسباب التي دفعت بالناس إلى الشوارع كانت مرتبطة بعمق بأشكال الرأسمالية في المنطقة: عقود على إعادة الهيكلة النيوليبرالية للاقتصاد، وتأثير الأزمات العالمية، وكيفية حكم الدول العربية من قبل أنظمة استبدادية، أمنية وعسكرية، بدعم من القوى الغربية.
خلفيات الاحتجاجات الجزائرية الراهنة لا تختلف بنيويا عن الحراكات الاحتجاجية العربية، التي ترتبط بجوهر النظام الاجتماعي في المنطقة وأنماط تراكم رأس المال، وبنية الطبقة والدولة، وعلاقة ذلك كله مع الرأسمالية العالمية
في هذا السياق، شهدت الجزائر تحولات عميقة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وفي مقدمتها مجانية وإلزامية التعليم للجميع ومجانية العلاج في المستشفيات والعيادات والمستوصفات الحكومية المنتشرة في كل مكان، ولكن منذ بداية الثمانينيات، حسب مراد طرابلسي، انتهجت الجزائر طريقا اقتصاديا مغايرا، فيما حافظت على النهج نفسه الذي سنّ "السياسة الاجتماعية"، وهو ما ولّد ما يمكن تسميته "انفصاما في الشخصية الجمعية"، حيث فُتح الباب على مصراعيه أمام القطاع الخاص، وهيمن الاستيراد بشكل أثّر بأي خطوة لتطوير قدرات الإنتاج الداخلي في كل المجالات. هكذا، تبدو الاحتجاجات نتيجة لهذا التشوه "الخلقي" في شكل النظام العام الذي شهد تبدلات وتغيرات عدة، وانتهى به المطاف إلى منهج اقتصادي يجمع الفوضوية والجشع وسياسة اجتماعية مبنية على افتراض ازدهار قيم العمل والتخطيط وحسن التدبير.
إن الأهمية التي تكتسبها هذه الحركات الاجتماعية في الجزائر، حسب لينا كنوش، ليست في نهاية المطاف سوى مظهر من مظاهر المأزق الهيكلي الذي يُعاني منه المجتمع الجزائري اليوم بسبب الفراغ الأيديولوجي للطبقة السياسية برمتها. ولعلّ تراجع الأيديولوجيات اليسارية والعربية، بسبب تخلي الحركات العلمانية عنها واكتفاء هذه الأخيرة ببرنامج وحيد يدعو إلى "تحرير" السلطة (دون تقديم بديل ملموس أو موثوق به)، وانحراف الإسلاميين الجزائريين الذين، ومن خلال حركة سياسية جماهيرية (الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، تحوّلوا إلى سياسة "المحافظة المجتمعية" الخالية من محتوى أيديولوجي حقيقي (مع تقارب مع التوجه الليبرالي).. كلّها عوامل تشير إلى متانة النظام الذي يحاول الآن الإعداد لخلافة دون عقبات. كما يؤدي هذا الفراغ الصعب داخل المجتمع إلى نشوء احتجاجات وتفشي العنف المتقطع.
إن وصف وتحليل طرابلسي وكنوش وغيرهم للحالة الجزائرية استند إلى الاحتجاجات السابقة على ما يحدث راهنا، لكنه كان في عمق الأزمة الحالية، ذلك أن الاستبداد والفساد كديناميات محلية مرتبطة بالعولمة النيوليبرالية غدتا سمة مميزة. ورغم غياب الحديث عن الاستبداد، فقد أقر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بتفشي ظاهرة الفساد في البلاد، وذلك في كلمته التي ألقاها نيابة عنه الأمين العام لرئاسة الجمهورية حبة العقبي خلال مؤتمر حكام الولايات الجزائرية (المحافظين) الذي عقد بالعاصمة الجزائر في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، حيث حذّر بوتفليقة من أن "بعض الآفات مثل الرشوة والمحسوبية والتصرفات البيروقراطية الجائرة التي يراد بها الباطل تستشري في جسم المجتمع وتتحول إلى طفيليات معوقة". وأعلنت بعض المنظمات الدولية المستقلة أن الفساد في الجزائر قد ساء في الآونة الأخيرة، حيث أشار ترتيب مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي تعده منظمة الشفافية الدولية؛ إلى أن الجزائر قد تراجعت بحدة إلى المركز 112 في تصنيف عام 2017، وذلك بعد أن كانت تحتل المرتبة 88 قبل عامين.
الاستبداد والفساد كديناميات محلية مرتبطة بالعولمة النيوليبرالية غدتا سمة مميزة
لقد كان لهذا الفساد المتفشي بشكل متزايد آثار مدمرة على اقتصاد الجزائر، لكن مكافحة الفساد لا تتم عبر التشريع القانوني فقط، حسب أحمد مرواني، بل تحتاج إلى إرادة سياسية قوية تعمل على تكريس دولة القانون، وإقرار مبدأ الفصل بين السلطات، ووجود عدالة مستقلّة، وبرلمان قوي، وصحافة مستقلّة، مع تحسين المنظومة القانونية، وتفعيل دور الرقابة، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وزيادة التوعية بأضرار الفساد. والأهم، أن حملات مكافحة الفساد يجب أن لا تكون ظرفية، بل يجب أن تكون عملية دائمة ومستمرة من خلال تمكين مختلف الأجهزة التي تم استحداثها من الآليات والوسائل التي تمكنها من أداء دورها بكل حرية.
الشارع يقود
في ظل هشاشة المعارضة السياسية الجزائرية وخلافاتها، وعدم قدرتها على كسب ثقة الشارع وافتقارها إلى استراتيجيات وبرامج قادرة على تقديم نموذج بديل للنظام، أخذ الشعب الجزائري المبادرة، كما سبق مع الانتفاضات الشعبية العربية، والتي يمكن فهمها في إطار الحركات الاجتماعية الجديدة. إذ ترتبط نظرية الحركة الاجتماعية بالظواهر السياسية الاجتماعية عموما، وتركز على حركات المعارضة المطلبية ذات الانتشار الواسع التي يصعب ربطها بحزب أو جماعة واحدة أو طبقة أو فئة محددة، وما يطلق عليها "اللاحركات الاجتماعية"، والتي تعتبر الأثر الجمعي لعدد كبير من الفاعلين الذين لا يعملون بشكل جمعي. فعندما يقوم أفراد عاديون منتشرون وغير مترابطين بممارسات يومية متشابهة لا تتوافق مع النظام العام، لكنها لا تأخذ طابع التحدي والمواجهة، فإنهم ينتجون حالة ضاغطة لا يستهان بقدرتها على تغيير الواقع السياسي والاجتماعي. وهي، حسب آصف بيات، الزحف الهادئ الذي يضع الأنظمة والقوى التقليدية في مأزق؛ فاللاحركات الاجتماعية ليست هدفا معاديا يمكن تبرير قمعه، ولا كيانات منظمة ذات قيادات محددة يمكن تحجيمها وامتصاصها، إنما هم الناس العاديون، وهم يمارسون حياتهم فحسب.
بعد أن كانت عفوية وعشوائية وغير منظمة، باتت التظاهرات الآن أكثر انتظاما، وبعد أن دخلت قطاعات جديدة في البلاد إليها، أصبحت أكثر قوة وصلابة،
لا جدال في أن الاحتجاجات الشعبية في الجزائر دخلت مرحلة جديدة، كما يرى محللون حسب "عربي يوست". فبعد أن كانت عفوية وعشوائية وغير منظمة، باتت التظاهرات الآن أكثر انتظاما، وبعد أن دخلت قطاعات جديدة في البلاد إليها، أصبحت أكثر قوة وصلابة، خصوصا
الجامعات وكليات الدراسات العليا، وأساتذة الجامعات والقضاة والمحامين. فقد بدا قرار عبد العزيز بوتفليقة بالترشح لفترة رئاسية خامسة (على الرغم من سوء حالته الصحية وتقدمه في السن) أمرا مستهجنا بالنسبة للكثير من الجزائريين، حسب جيليان دو أمور، فخرج مئات الآلاف إلى الشوارع في مدن عبر البلاد وفي الخارج على مدار الأيام القليلة الماضية لمعارضة ترشيح بوتفليقة، لتحطيم جدار الصمت والخوف، ولم تتوقع الحكومة الجزائرية الحالية هذا المستوى غير المسبوق من الحشود، كما ينبغي أن تتوقع
أن لا ننتهي الاحتجاجات بسرعة. وقد فاجأت الاحتجاجات المجتمع الدولي والمراقبين السياسيين الجزائريين، بما أن البلاد كانت قد أفلتت إلى حد كبير من التجمعات الجماهيرية التي جرت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خلال ما يسمى الربيع العربي في عام 2011.
خلاصة القول أن الاحتجاجات الحالية في الجزائر تجاوزت الحراكات الاحتجاجية المطلبية السابقة، وكسرت جدار الخوف والصمت. فهي حركة احتجاجية شعبية تضم كافة الأطياف والفئات والقطاعات وتنشد إجراء تغيير لطبيعة النهج السياسي، الذي ساهم في تردي الوضع الاقتصادي والحد من الفقر والبطالة، وتسبب في تنامي الفساد والمحسوبية وفاقم من الإحساس بالظلم، فضلا عن الشعور بالإذلال والحط من الكرامة عبر الإصرار على فرض رئيس مسن ومريض؛ لا يقوى على الظهور ولا الكلام. في هذا السياق، أصبح بوتفليقة من الماضي، لكن المستقبل حافل بالتوقعات.