هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في تصريح رسمي لمدير مشروع سد النهضة، أعلن المهندس كفلي هورو في 14 كانون الثاني/ يناير 2019 أن المشكلة الأساسية لتأخر بناء سد النهضة لقرابة ثلاث سنوات؛ تتمثل في "وجود واد عميق خلال تغيير مجري المياه".
واضح تماما أن جملة "واد عميق خلال تغيير مجرى المياه" هي جملة قيلت بوضوح باللغة الأورمية الإثيوبية وفهمها أهلها، إلا أنها جملة غير "سلسة" على الأذن العربية، وذلك بسبب "سوء الترجمة" من اللغة الأورمية إلى اللغة العربية. حيث ترجمت كلمة "كهف" لكلمة "واد"، وترجمت كلمة "نهر" لكلمة "مياه". فمدير المشروع كان يريد أن يقول "وجود كهف عميق خلال تغيير مجرى النهر".
فتصريح مدير مشروع سد النهضة يحتوي على ثلاثة أمور أساسية، أولها أن هناك "شيئا ما" تم اكتشافه أثناء تغيير مجري النيل نهاية عام 2014 ثانيهما أن هذا "الشي" هو السبب "الأساسي" وراء تأخير بناء سد النهضة، وليس السبب هو التركييبات الميكانيكية أو الكهربائية والتي اتهمت فيها شركة التصنيع العسكري للجيش الإثيوبي "ماتيك". ثالثهما أن الحكومة والمخابرات الإثيوبية ومدير المشروع السابق، والذي تم اغتياله في حزيران/ يونيو الماضي، وشركة "ساليني".. جميعهم كانوا على "دراية" تامة بهذا "الشي" الذي منع استكمال بناء سد النهضة وفقا للمخطط الزمني المقترح للسد، والذي كان يفترض اكتماله عام 2017.
على الرغم من علم المسؤولين الإثيوبيين بوجود "شيء" ما تحت أساسات سد النهضة يعيق بناءه منذ عام 2014، إلا أن الحكومة المصرية لم تناقش هذا الأمر بتاتا لعدم علمها بهذا "الشيء"، وهذا بحد ذاته يمثل "فشلا" استخباراتيا مهينا للدولة المصرية. فعلى الرغم من التكاليف الباهظة التي تدفعها الحكومة المصرية على مدار السنوات الثماني الماضية لوكالات فضاء دولية لشراء صورة تفصيلية لسد النهضة، إلا أنها وبكل ما لديها من أساتذة هندسة ري وهندسة جيولوجيا في الجامعات المصرية؛ لم تتمكن من تفسير تلك الصور بشكل "تقني" حقيقي يظهر لها ما أخفته الحكومة الإثيوبية عن الدولة المصرية.
في 17 آب/ أغسطس 2017، زار رئيس وزراء إثيوبيا السابق "ديسالين" العاصمة السودانية الخرطوم وتقابل مع الرئيس عمر البشير، حيث أطلعه على بعض التعديلات الجوهرية على جسم "سد النهضة"، مما جعل عمر البشير يخرج على الملأ ليؤكد للشعب السوداني أنه اليوم فقط "اطمأن" قلبه بأن سد النهضة لن ينهار على السودان. وفي ذات اليوم، تم تغيير المعلومات الهندسية لسد النهضة في جميع مواقع الإنترنت، وحتى على صفحة الشركة الإيطالية التي تبني السد "ساليني"، لينخفض ارتفاعه الخرساني من 175 مترا إلى 155 متر.
الجمع بين تصريحات الرئيس البشير يوم 17 آب/ أغسطس 2017 وتخفيض الارتفاع الخرساني للسد بمقدار 20 مترا؛ يعني شيئا واحدا لا ثاني له: أن هناك مشكلة في أساسات سد النهضة أجبرت الحكومة الإثيوبية على تخفيف الأحمال الرأسية على قاع نهر النيل.
في تاريخ 31 كانون الأول/ ديسمبر 2017، كنت قد كتبت مقالة في هذا الشأن تحت عنوان "عالم سدود: سد النهضة مبني على كهوف ضخمة تهدده بالانهيار خلال 5 سنوات"، واليوم أود أن أذكر أهم ما جاء في تلك المقالة، لعلها تفيد المفاوض المصري عندما يجلس ليتفاوض مع الجانب الإثيوبي.
وفقا لما ذكرته بتلك المقالة، فإن هناك سلسلة من الكهوف الجيرية تقع تحت أساسات سد النهضة؛ كان قد تم اكتشافها من شركة أبحاث التربة الإيطالية العاملة في موقع سد النهضة عام 2010، وكانت تلك الكهوف الجيرية لا تمثل خطرا حقيقيا على السد الصغير الذي كانت تنوي إثيوبيا بناءه قبل عام 2011، إلا أنه يمثل الآن خطورة كبيرة على سد النهضة الضخم الذي تعاظمت إثيوبيا في زيادة إرتفاعه بعد الثورة المصرية وسقوط حسني مبارك، الكنز الاستراتيجي للصهيونية العالمية، من رئاسة الدولة المصرية.
صورة توضح مواقع بعض الكهوف الجيرية تحت أساسات سد النهضة
صورة توضح وجود صدع تحت أساسات سد النهضة
على الرغم من معرفة الحكومة الإثيوبية بوجود كهوف جيرية في قاع سد النهضة منذ عام 2010 على عمق يقارب 15 مترا تحت الأساسات، إلا أن الحكومة الإثيوبية رفضت الانصياع لتوصيات شركة أبحاث التربة، وأصرت على بناء سد النهضة الضخم دون تنفيذ أي نوع من أنواع المعالجة الحقيقية لتلك الكهوف الجيرية. ولهذا توقف البناء تماما في المقطع الأوسط منذ بداية عام 2015، بعدما ظهر شرخ عميق في خرسانة السد، وبدأت تتسرب منه المياه أثناء فيضان آب/ أغسطس 2015.
شرخ دقيق بخرسانة جسم السد ينشع منه المياه أثناء الفيضان
وفقا لما نُشر بداية هذا الشهر في الصحف الإثيوبية عن المشاحنات التي تمت بين وزير الكهرباء الإثيوبي وأعضاء البرلمان، الذين يرفضون تصديق بيان الحكومة بشأن انتحار المدير التنفيذي السابق لسد النهضة وإصرارهم على أنه مات مقتولا وليس منتحرا، وأن سبب قتله هو "شيء ما" ذات علاقة بسلامة أساسات سد النهضة، ودفاعا عن نفسه، أعلن وزير الكهرباء الإثيوبي لأول مرة داخل البرلمان الإثيوبي حقيقة "أساسات" سد النهضة ووجود كهوف، إلا أن المدير التنفيذي للسد أضاف معلومة جديدة على تصريحات وزير الكهرباء الإثيوبي يوم 3 كانون الثاني/ يناير، بأنه حدد لنا متى تم اكتشاف هذا الأمر، وهو تاريخ تغيير مجري النيل في نهاية عام 2014.
وكانت شركة المقاولات الإيطالية التي تبني سد النهضة "ساليني" قد نشرت في بداية عام 2017 دراسة غامضة؛ تناقش فيها ماذا يمكن أن يحدث في حالة وجود شرخ في أساسات سد النهضة، مؤكدة أنها مجرد دراسة "نظرية". إلا أنه من المستغرب بذل شركة ساليني جهدا كبيرا على تلك الدراسة، دون أن يكون هناك سبب حقيقي يقلقها بشأن احتمالية وجود شرخ بالأساسات. واليوم تأتي تصريحات وزير الكهرباء الإثيوبي ومدير مشروع سد النهضة بشأن وجود "كهوف جيرية تحت أساسات السد"؛ لتؤكد أن ما ادعته شركة ساليني في دراستها على أنه "شرخ نظري" لم يكن حقا "نظريا"، بل معضلة فنية تسببت بتوقف البناء في المقطع الأوسط لأكثر من أربع سنوات.
شرخ الأساسات ليس نظريا كما إدعت شركة ساليني بل هو نتيجة هبوط بسبب الكهوف الجيرية
الحكومة الإثيوبية لا يتفوق عليها في مجال الشفافية غير حكومة السيسي، ولهذا فهي كذبت على الشعب الإثيوبي منذ عام 2015 بوعود تشغيل سد النهضة عام 2016 ثم عام 2017 ثم عام 2018، وهي تعلم علم اليقين أنها غير قادرة على استكمال بناء سد النهضة بسبب وجود تلك الكهوف الجيرية. إلا أنها تكذب وتكذب، وأقصى ما صدقت به كان قبل ثلاثة أشهر فقط، عندما اتهمت شركة ماتيك للصناعات العسكرية بأنها هي سبب التأخير، وأخفت السبب الأساسي لعدم اإكتمال المقطع الأوسط لسد النهضة، والذي هو في الأساس "كهوف جيرية عميقة" تهدد سلامة السد.
اعتراف الحكومة الإثيوبية بوجود سبب "جيولوجي" تسبب في تعطل بناء سد النهضة منذ عام 2014؛ لا يعني بتاتا عدم اكتمال سد النهضة، بل سيكتمل على أكمل وجه لأنهم ببساطة لا يقدرون على مصارحة الشعب الإثيوبي بأن أسباب انهيار سد النهضة أكثر بكثير من أسباب استقراره. ولا يوجد سياسي اليوم مستعد لمواجهه "حرب أهلية" قد تشتعل لو فقد الشعب الإثيوبي أمله القومي في "سد النهضة". وعليه، فيوم بدء تشغيل سد النهضة نهاية عام 2020، وفقا لآخر تصريحات إثيوبية، قد يكون أول يوم في بداية رحلة تهجير الشعب السوداني من عدة مدن جنوبية؛ ستدفع ثمن عدم شفافية الحكومة الإثيوبية.
حتى وإن كان من مصلحة الدولة المصرية تأخر بناء سد النهضة أو حتى انهياره، ولكن هذا لا يعني بتاتا أن مصر بعيدة تماما عن كل هذا الخراب. فانهيار سد النهضة نتيجة "الكهوف العميقة" قد يؤدي في نهاية الأمر لتغيير مجرى النيل الازرق ليشق مجرى جديدا، غالبا في اتجاه دولة جنوب السودان. فالقوة الهيدروليكية الضخمة الناتجة عن حركة قرابة 74 مليار متر مكعب من مياه بحيرة التخزين أثناء انهيار سد النهضة كافية جدا لشق مجرى أو أكثر في عدة اتجاهات، بعيدا عن المجرى الأصلي لنهر النيل الأزرق.
ولذلك، فإنني كمواطن مصري متخصص في هندسة السدود، أطالب الدولة المصرية اليوم بتدويل قضية سد النهضة، واتخاذ تصريحات وزير الكهرباء الإثيوبي ومدير مشروع سد النهضة كدليل إثبات عن عدم حسن نية الحكومة الإثيوبية في مشاركة الأمور الفنية مع دولة الممر والمصب، وأن ما وراء تلك التصريحات مصيبة تاريخية وإنسانية مستقبلية؛ تتمثل في احتمالية تغيير مجري النيل لمساره.