هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا جدال في أن العالم ابتلي بشخص أخرق يدعى دونالد ترامب؛ بات يقود قوة إمبراطورية عولمية هي الإمبريالية الأقوى والأعنف تاريخيا؛ وفق أسس ومبادئ سياسية تستند إلى دبلوماسية داروينية فجة. فالنهج الأمريكي الترامبي يجبر الآخرين على الرضوخ والتكيّف مع غطرسة القوة وأهواء السلطة الاعتباطية، ويدفع الآخرين إلى الاستجابة لشطحات وتقلبات الأمزجة السوداوية عبر بوابات ملتبسة لمسايرة الترهات والخرافات، وتمثل فضاءات الشرق الأوسط عموما ودهاليز سوريا خصوصا؛ مجالات خصبة للتجريب والتخريب للمخيال الترامبي العجيب والغريب، الذي يتحفنا دوما بمقترحات وقرارات ومشاريع على درجة عالية من العظمة والأهمية، ثم سرعان ما تتكشف عن أحلام وأوهام. ويمثل مقترح تأسيس منطقة آمنة شمال سوريا أحد شطحات ترامب التي لا حصر لها.
جاء الإعلان عن تأسيس منطقة آمنة شمال سوريا عقب تصاعد الانتقادات حول قرار ترامب الانسحاب من سوريا، والقلق على مصير أكرادها، وإعلان تركيا قرب عملية شرق الفرات، حيث نشر ترامب سلسة تغريدات في 13 كانون الثاني/ يناير الجاري؛ يؤكد فيها أن بلاده ماضية في سحب قواتها من سوريا. وكتب في إحدى التغريدات: "سندمر تركيا اقتصاديا إذا هاجمت الأكراد"، ودعا إلى إقامة "منطقة آمنة" عرضها 30 كيلومترا، دون أن يوضح ماهيتها وحدودها ومن سيقوم بها ويمولها. وفي اليوم التالي تراجع ترامب عن تهديده بإلحاق الأذى بالاقتصاد التركي في حال هاجمت أنقرة الأكراد، لكنه طالب أردوغان بضمانات بعدم المساس بحلفائه الأكراد. وشكل مقترح إنشاء "منطقة آمنة" مخرجا وافقت عليه أنقرة، رغم الاختلاف والتناقض بين التصورات الأمريكية والتركية حول ماهية المنطقة الآمنة.
لم تكن تغريدات ترامب الأخيرة حول إنشاء منطقة آمنة شمال سوريا الأولى، فقد سبق أن تحدث حول إقامة "مناطق آمنة" للنازحين في سوريا في 25 كانون الثاني/ يناير 2017، حيث قال: "سأُقيم حتماً مناطق آمنة للناس في سوريا"، وهو ما خلق آنذاك ردود فعل متباينة حول ماهية المناطق الآمنة وحدودها وأبعادها والقدرة على تنفيذها والمقاصد من وراء إنشائها؛ بين مؤيد ومتحفظ ورافض بسبب غموضها والتباسها.
أزمة أوجدها الأمريكيون
وكانت تركيا قد طرحت في مرحلة مبكرة من النزاع في سوريا على إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما فكرة المنطقة الآمنة؛ خلال الزيارة التي قام بها أردوغان إلى واشنطن في أيار/ مايو 2013، وقد قوبلت الفكرة بالرفض القاطع رغم الضغوطات التركية التي شددت على أهميتها، حيث شدد مسؤولو إدارة أوباما آنذاك أن تطبيق الفكرة قد يورط القوات الأمريكية لأعوام ويعرضهم لخطر كبير من تهديدات مختلفة، ذلك أن الفكرة تحمل في طياتها إمكانية اشتراك أكبر للجيش الأمريكي في النزاع الدائر هناك، بما في ذلك استخدام أكثر للقوة الجوية وقوات برية أمريكية أو من الدول الحليفة، وهي خطوة سبق وأن رفضتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، وصرح المتحدث باسم البنتاغون جيف دافيس، آنذاك بالقول إن "وزارة الدفاع لم يُطلب منها بعد وضع الخطط"، مضيفا أن "إقامة مناطق آمنة سيمثل توسعا في المهمة الأمريكية في سوريا. ووزارتنا حاليا منوط بها شيء واحد في سوريا، وهو إضعاف تنظيم "داعش" وإلحاق الهزيمة به". وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش معلقاً: "لا أفهم هذه الفكرة تماماً، لسنا ضد إنشاء مناطق آمنة، لكننّا ضد حصر المدنيين في نطاق معين".
في هذا السياق، فإن فكرة ترامب لتأسيس منطقة آمنة بالتعاون مع تركيا تفتقر إلى الجدية والموضوعية. وقد صرح وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو الخميس الماضي بأنه لا شيء مؤكد بشأن المنطقة الآمنة في سوريا، وأن بإمكان تركيا إقامة "منطقة آمنة" في سوريا بمفردها، وأشار إلى وحود اتصال غير مباشر مع سوريا.
فكرة ترامب لتأسيس منطقة آمنة بالتعاون مع تركيا تفتقر إلى الجدية والموضوعية
تصورات متناقضة
ورغم الاشتراك اللفظي بين أمريكا وتركيا بخصوص مصطلح "المنطقة الآمنة"، إلا أن تصورات البلدين حولها تصل حد التناقض. فبحسب صحيفة "صباح" التركية، فإن مفهوم هذه المنطقة مختلف بين تركيا وأمريكا، إذ تتحدث الولايات المتحدة اليوم عن منطقة آمنة بعمق 32 كيلومترا، وفي عام 2016 أيضاً مارست ضغوطاً حتى لا يتجاوز الجيش التركي عمق 20-30 كيلومترا خلال عملية درع الفرات. فالمنطقة الآمنة التي يتحدث عنها ترامب الآن، رغم أنها تتضمن وعداً بتحقيق أمن الحدود لتركيا في الظاهر، إلا أنها تنطوي على خطة إبقاء وحدات حماية الشعب الإرهابية على الحدود السورية التركية، بمعنى أن المنطقة الآمنة التي تفكر بها تركيا ليست نفس المنطقة الآمنة التي تتحدث عنها الولايات المتحدة.
رغم التصريحات الودية المتبادلة التي تصدر بين فينة وأخرى عن واشنطن وأنقرة، إلا أن العلاقات بين البلدين ليست جيدة، فالاستراتيجية الأمريكية تهدف إلى إضعاف تركيا بشتى الوسائل، ولا تخرج تصورات ترامب للمنطقة الآمنة عن هذا السياق الراغب بخلق جيب كردي مناهض للأمن القومي التركي. وقد ازدادت العلاقات بين واشنطن وأنقرة توتراً عندما قررت أمريكا، حليفة تركيا المفترضة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) استخدام الورقة الكردية لصالحها، واعتبرت تركيا إنشاء قوة أمن حدود كردية بدعم أمريكي في كانون الثاني/ يناير2018 عملاً إرهابياً لخلق ممر إرهابي معاد لتركيا. ورغم التراجع عن الفكرة لاحقا، والتوافق على إنشاء خارطة طريق في مدينة منبج السورية؛ تضمنت القيام بدوريات مشتركة أمريكية تركية في المناطق المتاخمة للمدينة، فقد بقيت المليشيات الكردية تحافظ على وجودها هناك. ومنذ أن تحول الأكراد إلى حليف وثيق للولايات المتحدة وتأسيس "قوات سوريا الديمقراطية" في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، والعلاقات الأمريكية التركية في تدهور وتوتر، فشكوك أنقرة حيال نوايا واشنطن تصل حد اليقين بأنها تهدف إلى إضعافها، وهو ما دفع الجيش التركي إلى تنفيذ عملية "درع الفرات" في آب/ أغسطس 2016، وطالت مناطق واسعة بريف محافظة حلب، بينها مدينتا جرابلس والباب، وعملية "غصن الزيتون" في كانون الثاني/ يناير 2018، وهدفت إلى السيطرة على منطقة عفرين التابعة لحلب وتطهيرها من عناصر تنظيم "وحدات حماية الشعب"؛ الذي تعتبره أنقره كيانا إرهابيا يشكل ذراعا لـ"حزب العمال الكردستاني".
مشاكل لتركيا
لا تعدو المقترحات الترامبية بإنشاء منطقة آمنة عن كونها امتصاصا للغضب الذي أثاره قراره سحب قوات بلاده من سوريا في كانون أول/ ديسمبر 2018، وتداعياته العملية، حيث سارع الأكراد إلى الاتصال مع روسيا وطلب وساطتها لعقد صفقة مع النظام السوري ودعوته لحمايتهم، بعد أن شعروا بـ"الخيانة"، الأمر الذي حمل ترامب على مقاربته التدميرية بصبغتها الداروينية؛ من خلال طلب ضمانات من أردوغان بحماية أصدقائه الأكراد وعدم التعرض لهم، وإلا سيتم "تدمير الاقتصاد التركي"، وصولا إلى خرافة الاتفاق على إقامة مناطق آمنة شرقي الفرات، وهو مقترح يرفضه أكراد سوريا، ويقترحون رسم خط فاصل بين تركيا وشمال سوريا عبر استقدام قوات تابعة للأمم المتحدة لحفظ الأمن والسلام أو الضغط على تركيا لعدم مهاجمة مناطقهم.
لا تعدو المقترحات الترامبية بإنشاء منطقة آمنة عن كونها امتصاصا للغضب الذي أثاره قراره سحب قوات بلاده من سوريا في كانون أول/ ديسمبر 2018، وتداعياته العملية،
إن كافة الاحتمالات في سوريا ستبقى مفتوحة ومتقلبة وتتجه نحو مزيد من الغموض والتشوش والتخبط، لكن المؤكد أن الولايات المتحدة تسعى إلى خلق تواترات ومشاكل للأخرين، فحسب صحيفة "كوريير" الروسية، "يزعم الأمريكيون أن انسحاب قواتهم من سوريا يخلق تحديات جديدة لموسكو في استمرار التعاون مع أنقرة. وأحد التحديات الرئيسية هو المشكلة الكردية ببساطة. بمغادرتها سوريا، تحاول الولايات المتحدة تخريب العلاقات بين أنقرة وموسكو، ووفقاً للمحللين الأتراك، فإن الأكراد من حزب العمال الكردستاني ليس لديهم أي فرصة للحفاظ على الهيمنة العسكرية والسياسية عند انتهاء الوصاية الأمريكية، ويستند الهيكل الذي أنشأه الحزب في منبج إلى دعم واشنطن العسكري والمصالح الأمريكية".
النظام السوري
فالقوات الأمريكية ستنسحب من سوريا، والأكراد بقوا دون حليف، والآن توجههم بالكامل بات نحو الدولة السورية، وهم يتحدثون باستمرار عن استعدادهم لإعادة المناطق التي يسيطرون عليها للدولة السورية، وأول المناطق التي تحدثوا عنها هي الشريط الحدودي بين تركيا وسوريا، أي المنطقة التي تنوي تركيا وأمريكا ضمها إلى ما يسمى بـ"المنطقة الآمنة"، ما يدل على أن أنقرة بقيت وحدها في الميدان من دون حليف، وخصوصاً بعد التباين والاختلاف الواضح في رؤية كل من الطرفين الأمريكي والتركي، الأمر الذي يخفض إلى حد كبير من فرص نجاح إنشاء هذه المنطقة أو حتى انعدامها. كما يلاحظ أنه في المرحلة الحالية أي مشروع تحاول أمريكا أو تركيا طرحه في سوريا؛ ينتهي بنتيجة أن الدولة السورية ستستعيد أي منطقة تحاول تركيا الاقتراب منها.
مقترح المنطقة الآمنة الذي طرحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لا يعدو عن كونه حيلة جديدة لخلط الأوراق وتجنب الآثار السلبية التي خلفها قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا، ويهدف إلى خلق حالة من التوتر بين حلفاء "سوتشي"