التجربة التنموية التركية
بلا شك، فإن التجربة التنموية التركية هي تجربة فريدة، ملهمة وغنية بالخبرات والدروس المستفادة على جميع المستويات: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتقنية، والبيئية، والمنظومة القيمية والقانونية.
وكذلك تمثل تجربة يقتدى بها في قدرة الحزب الحاكم في عمل التوافق بين مكونات المجتمع، سواء كانت عرقية أو علمانية أو دينية. ثم تأتي تجربة المحليات التركية الفريدة عالميا، والخلطة التركية السحرية لكيفية ربط النجاح السياسي والاقتصادي كل منهما كمدخل للآخر.
ولم تتوقف التجربة التركية عند هذا الحد، فسطرت فصولا متميزة للتعامل مع جدلية العلمانية والإسلام والديمقراطية، وزيادة دور المواطن والمجتمع المدني كشريك ومراقب لعملية التنمية. وأخيرا، يأتي النجاح في إدارة وتنظيم العلاقات العسكرية المدنية.
كل هذه النجاحات انعكست على قوة الدولة التركية، فأصبح الناتج المحلي التركي يزيد عن 800 مليار دولار، وصنفت الدولة رقم 17 في ترتيب قوة
الاقتصاديات العالمية، وتضاعف نصيب الفرد من الدخل ثلاث مرات في العقد الأخير فقط، حيث يزيد الآن دخل الفرد عن 12 ألف دولار سنويا، واستحقت عن جدارة أن تكون عضوا أساسيا في منظمة التعاون والتنمية ومجموعة الـ20.
الاقتصاد المعرفي وأهميته لتركيا الجديدة
لا شك في أن المشروع التنموي التركي لا يمثل الدولة التركية فقط، بل هو نموذج مصغر للمشروع الإسلامي المأمول والضروري لنهضة الأمة الإسلامية ككل، وقدرتها على الوقوف أمام أطماع المشروعات المنافسة في المنطقة، وبالتالي أوجد ذلك المتربصين لهذا المشروع الواعد.
وخلال الفترة الراهنة، تتعرض
تركيا لهجمة دولية شرسة على اقتصادها وعملتها. وبحسب بيانات معهد الإحصاء التركي، هناك تراجع في معدل النمو الاقتصاد التركي في الربع الثاني من العام 2018 بمعدل نقطتين مئويتين، ليبلغ 5.2 في المئة، مقابل 7.3 في المئة خلال الربع الأول. وأظهرت البيانات انخفاض القيمة المضافة في القطاع الزراعي التركي بمعدل 1.5 في المئة، مقابل نمو قطاع الصناعة بـ4.3 في المئة، وقطاع البناء بـ0.8 في المئة فقط، وقطاع الخدمات بـ8 في المئة.
ولا يزال الاقتصاد التركي يخضع لضغوط كبيرة، خصوصا مع الارتفاع المستمر في نسب التضخم التي سجلت في تموز/ يوليو الماضي أعلى مستوياتها في 14 عاما، لتقترب من 16 في المئة.
وهناك مشكلة نسبة الدين العام إلى الناتج الإجمالي، وضغوط التضخم، وهبوط العملة، وهي المشاكل التي تحتاج ربما إلى تعامل نوعي خارج الصندوق وبواقعية شديدة، بعيدا عن الحديث عن الإنجازات التي لا يمكن أن ينكرها إلا الجاحدين.
وبما أن زيادة القيمة المضافة في الإنتاج والصادرات هي مرتكز أساسي لرؤية صانعي السياسات ومتخذي القرار التركي في هذه المرحلة، وكذلك لرؤية 2023، يأتي الاقتصاد المعرفي ليقدم روشتة علاجية متكاملة قد تساهم في حل المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد التركي حاليا، ويضع الفرص المستقبلية لطفرات كبيرة للنمو الاقتصادي التركي، حيث يتبلور دور اقتصاد
المعرفة في استخدام تقنيات المعلومات بدلا من الموارد ورأس المال، مما يساهم في تحقيق نسب نمو اقتصادي وطفرات غير تقليدية يحتاجها الاقتصاد والمواطن التركيين، وينعكس تأثير هذا النمو على زيادة حجم التجارة الدوليّة التركية، كما يساهم بشكل كبير بتوليد الدخول الكبيرة للمواطنين العاملين في هذا القطاع، حيث فرص العمل المتنوعة والمتزايدة، ويساهم بشكل كبير لدعم توسع الاستثمار والتقليل من استخدام الموارد الطبيعية.
كذلك يسهم اقتصاد المعرفة بشكل كبير في تغيير هيكلية الاقتصاد، إذ يؤدي إلى زيادة الاهتمام بالإنتاج المعرفي المباشر وغير المباشر، ويعزز الاستثمار برأس مال المعرفة، ويدعم الصادرات الخاصة بالمنتجات المعرفية.
وأخيرا، اقتصاد المعرفة مبني بشكل أساسي على تنمية الموارد البشرية للدولة التركية، وخلق جيل جديد قادر على الابتكار، وامتلاك تركيا لتقنياتها الوطنية، وتوطين الصناعات الحديثة في تركيا وتحقيق شعار "صنع في تركيا".
ركائز الاقتصاد المعرفي حسب منهجية البنك الدولي
تمثل الأرض والعمالة، ورأس المال؛ العوامل الأساسية للإنتاج في الاقتصاد التقليدي، والذي استبدلها الاقتصاد المعرفي في الاقتصاد الجديد لتكون الابتكار والتعليم والبنية التحتية المعرفية، وأصبح الاقتصاد المعرفي يستأثر الآن بأكثر من 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بمعدل نمو سنوي 14 في المئة. فالابتكار (البحث والتطوير) يعتمد على قدرة المؤسسات الأكاديمية بربط بحوثها باحتياجات الصناعة المحلية والدولية، أما التعليم، فهو من الاحتياجات الأساسية للإنتاجية والتنافسية الاقتصادية، حيث توفر الحكومات العمال والمتخصصين المهرة والقادرين على تطويع التقنيات والمنهجيات الحديثة في احتياجات العمل.
وتأتي البنية التحتية المعرفية المبنية على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ لتسهل تطوير وإدارة ونشر المعلومات والمعارف، وتكييفها مع الاحتياجات المحلية والسوق الدولي؛ لدعم الأنشطة الاقتصادية المختلفة وتحفيز المشروعات النوعية، لتشارك في إنتاج قيم مضافة عالية. وأخيرا، الإدارة الرشيدة، والتي تخطط على أسس اقتصادية قوية، تستطيع توفير كل الأطر القانونية والتشريعية والسياسية لزيادة معدلات النمو والإنتاجية.
مؤشرات ركائز الاقتصاد المعرفي في تركيا
النهضة التنموية الحديثة لتركيا هي وليدة قيادة وطنية رشيدة قوية، وتخطيط جيد، وركائز اقتصادية متنوعة؛ كان أهمها ركائز التنمية المعرفية والإنفاق عليها بمخصصات مالية ضخمة، وهي تشمل قطاعات التعليم والصحة والاستثمار في العنصر البشري والبنية الأساسية لقطاع الاتصالات، ودعم حرية تداول المعلومات.
ففي التعليم (الركيزة الأساسية للتنافسية الاقتصادية)، نشرت النسخة البريطانية لموقع كونفرزيشن دراسة هامة؛ عن أن النظام التعليمي في تركيا من أفضل النظم التعليمية في العالم، ولا تقل جودة التعليم في تركيا عن سنغافورة واليابان. وهذا يعني أن تركيا وضعت نفسها من بين أفضل النظم التعليمية في العالم، ليمثل بذلك الركيزة الأساسية للتنافسية الاقتصادية.
وبما أن زيادة القيمة المضافة في الإنتاج والصادرات هي مرتكز أساسي لرؤية صانعي السياسات ومتخذي القرار التركي في هذه المرحلة، جاءت الطفرة الكبيرة في قطاع الاتصالات، حيث أعطت تركيا اهمية كبري للاقتصاد المعرفي وزيادة الاستثمار فيه. وأكبر دليل على هذه الطفرة الكبيرة، أن قطاع
التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات (ICT) في تركيا يمثل محورا أساسيا في رؤية تركيا لعام 2023، حيث الطموح التركي في الوصول إلى قائمة أكبر 10 دول في التحول الالكتروني، ومحو أمية استخدام الحاسوب 80 في المئة من إجمالي السكان والوصول بمستخدمي الإنترنت إلى 30 مليونا، وزيادة حجم قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى 160 مليار دولار، وذلك عقب مصادقة البرلمان التركي على القانون "علمي - تكنولوجي - ابتكاري"، والقائم على الاقتصاد المعرفي، وهو يعكس اهتمام القيادة بهذا التوجه.
ومهدت الثقة الكبيرة في قوة الاقتصاد التركي لضخ رؤوس الأموال الوطنية، ومن المستثمرين العرب والأجانب، للاستثمار في هذا القطاع الهام، والانطلاق نحو تأسيس مجمعات الأعمال، أو ما يطلق عليها حاضنات الشركات الناشئة القائمة على ربط البحوث بالتطبيق، بالتعاون مع الجامعات التركية وخبرائها، وكذلك الخبراء الدوليين، حيث الربط بين البحوث العلمية واحتياجات الصناعة الحقيقية، مما يمهد لتطوير المئات من براءات الاختراع والتقنيات التركية الوطنية.
توصيات مقترحة لتطوير الاقتصاد المعرفي التركي
وخلاصة القول، أن تركيا تسير بخطوات ثابتة نحو الاقتصاد المعرفي، لمعرفتها جيدا بالعائد غير التقليدي من امتلاك التقنيات وتوطين الصناعات الذكية الوطنية، والأهم العقول الوطنية المحترفة.
وهناك محاور هامة مقترحة للإدارة الاقتصادية التركية، تتمثل في زيادة الاهتمام بالدراسات والأبحاث التي تختص بالاقتصاد المعرفي، ووضع تطوير اقتصاد المعرفة على أولويات صانعي السياسات ومتخذي القرار، وزيادة المخصصات المالية لدعم الاقتصاد المعرفي التركي وركائزه، ثم تشجيع الجامعات والمراكز البحثية على ربط بحوثهم باحتياجات الصناعة، وتوفير البيئة المعرفية المناسبة لتشجيع عملية الإبداع والابتكار، ثم أهمية إعداد خطة استراتيجية متكاملة للنهوض بالاقتصاد المعرفي التركي، والاستفادة من التجارب الدولية.
كذلك، تشمل صناعة السياسات التي تهدف إلى إتاحة وتيسير وتخفيض التعريفات الجمركية على المنتجات المعرفية، وزيادة القدرة التنافسية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع المستثمرين لخلق مجمعات الأعمال أو حاضنات الشركات الناشئة القائمة على ربط البحوث بالتطبيق، وربط العلم باحتياجات الصناعة الحقيقية لتمهد لتطوير براءات الاختراع والتكنولوجيا التركية. وأخيرا، الاستفادة من العقول المهاجرة من بلادها، والتي استوطنت في تركيا، كثروة قومية، خاصة مع إيمان معظم المتخصصين والخبراء المهاجرين لتركيا بأهمية نجاح المشروع التركي للأمة الإسلامية ككل.