هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشر موقع "ميدل إيست آي" مقالا للكاتب مارون رابوبورت، تحدث فيه عن دوافع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول قرار وقفه التصعيد في غزة والعودة إلى التهدئة، بعد يومين من العدوان على القطاع، وتلقي الرد من فصائل المقاومة.
وقال إنه "لضمان استمرار سياسة الضم التي يمارسها بهدوء، وإن كان بثبات، يحتاج رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى التهدئة وليس الحرب".
وفيما يلي مقال "ميدل إيست آي" الذي ترجمته "عربي21":
"مستسلمون للإرهاب" و "جبناء" – تلك هي الأوصاف التي أطلقها أفيغدور ليبرمان لوصف سلوك الحكومة الإسرائيلية ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ولتبرير قراره تقديم استقالته من منصب وزير الدفاع.
إلى حد معقول، يمكن للمرء افتراض أن استقالة ليبرمان تتعلق بالدرجة الأولى باعتبارات سياسية، فهو يريد مع اقتراب موعد الانتخابات أن يراه الناس على هيئة ذلك الشخص الذي لم يستسلم لحماس. ما من شك في أن ليبرمان، وهو مخلوق سياسي مجرب، يدرك جيدا أن وصف نتنياهو بالجبان يمكن أن يخدم أغراضه.
وهو في ذلك لا يقف وحيدا. ولا أدل على ذلك من أن سديروت شهدت يوم الثلاثاء تجمعا لمئات المتظاهرين في مدخل المدينة، حيث أشعلوا النار في الإطارات ورددوا صائحين: "بيبي عد إلى بيتك". يبدو أنهم قبلوا بأن يوصف نتنياهو بالزعيم الجبان. وفي السياق ذاته، أكد وزير التربية نفتالي بينيت أن قرار الحكومة قبول وقف إطلاق النار مع غزة لم يرق له.
لا جديد في ذلك. فمنذ العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2014، يحاول بينيت تصوير نتنياهو كما لو كان رئيس وزراء غير حازم تنقصه الشجاعة للقيام بما هو صحيح، وما هو صحيح يعني هنا تدمير حماس.
رجل سلام؟
لم يقتصر على اليمينيين تصوير نتنياهو بأنه زعيم ضعيف، بل تسابق يائير لابيد من ييش أتيد وآفي غابي من حزب العمل وغيرهم على انتقاد نتنياهو، واتهامه بالجبن عن مواجهة حماس. وتعليقا على أنباء التوصل إلى وقف لإطلاق النار، قال رئيس الوزراء السابق إيهود باراك: "نتنياهو مفلس، ولقد خضع لحماس تحت النيران."
وكل خمس دقائق تجد شخصا يرفع على الفيسبوك مقطع فيديو لنتنياهو حينما كان زعيما للمعارضة في عام 2009 وهو يتعهد بتدمير نظام حماس، والمقصود هو استخدام هذا المقطع لإثبات الفجوة بين تصريحات نتنياهو العنترية أثناء الحرب وشخصيته المترددة والرعديدة.
إلا أن الكاتب الصحفي جدعون ليفي اختار أن يسلط الضوء على الجانب الإيجابي من شخصية نتنياهو، واصفا إياه في مقال أخير له في هآريتز برجل السلام. رغم أن المقال كان قد كتب قبل أيام قليلة من بدء جولة العنف الحالية، إلا أنني أعتقد بأن السرعة التي تم بها تبني وقف إطلاق النار مع حماس تعزز ما ورد في المقال من أفكار رئيسية.
يذكرنا ليفي، ومعه في ذلك حق، أنه وخلال اثني عشر عاما قضاها في رئاسة الحكومة -بما في ذلك الفترة السابقة التي شغل فيها موقع رئيس الوزراء ما بين 1996 و1999- لم يشن نتنياهو سوى حرب واحدة مقارنة بحربين شنهما أولمرت خلال السنوات الثلاث التي كان فيها رئيساً للوزراء. وأشار ليفي إلى أن نتنياهو أثبت أنه أكثر رئيس وزراء مسالم في تاريخ إسرائيل".
ومع ذلك، فإن النقد الموجه لنتنياهو بسبب جبنه من ناحية، والإشادة باعتداله من ناحية أخرى، كلاهما يخفق في تفسير سلوكه. فنتنياهو رجل عقائدي، يحمل عقيدة "أرض إسرائيل". فمنذ أن جاء إلى السلطة في عام 1996، وبالتأكيد منذ أن عاد إلى السلطة في عام 2009، كان عازما على الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط.
سياسة الضم
يرى نتنياهو في ذلك مهمة تاريخية ورثها عن والده، الذي ورثها بدوره عن الزعيم الصهيوني الراحل زيف جابوتنسكي، ومفادها أن السيادة الوحيدة الممكنة في أرض إسرائيل هي السيادة اليهودية التي تستثني كل الآخرين، وبناء عليه فإن منع قيام حكم لسيادة أجنبية في أرض إسرائيل أمر بالغ الأهمية لوجود الشعب اليهودي، وبشكل غير مباشر، لوجود الحضارة الغربية بأسرها، وما قانون الدولة القومية إلا إحدى تجليات هذه العملية الأيديولوجية.
إلا أن نتنياهو ليس متعنتا، بل هو من النوع الذي يقر بالواقع. إنه يدرك أن المجتمع الدولي لن يقبل بإلغاء اتفاقيات أوسلو وتفكيك السلطة الفلسطينية وضم الضفة الغربية إلى إسرائيل. وحتى في ظل حكم دونالد ترامب، الذي فعل في سبيل تشجيع هذا المشروع أكثر مما فعله أي رئيس أمريكي سابق، يكاد يكون مستحيلا اعتراف المجتمع الدولي بعملية مآلها تدمير السيادة الفلسطينية.
ولذلك ما يتوجب على نتنياهو فعله هو كسب مزيد من الوقت، من ناحية ليدخل في عملية سياسية من شأنها خلق حالة من التجمد العميق، ومن ناحية أخرى ليستمر في مشروع بناء المستوطنات وإيجاد حقائق على الأرض داخل الضفة الغربية والقدس الشرقية، على أمل أنه بعد عشرة أو عشرين أو ثلاثين عاما لن يبقى ثمة خيار سوى دولة إسرائيل التي تحكم وحدها وبشكل حصري أرض إسرائيل التاريخية.
وللاستمرار في هذا الضم الزاحف ولكن المحكم يحتاج نتنياهو للتهدئة، وذلك أن الضم المباشر يسبب ضجيجا، ولذلك فهو يعارضه، حتى لو كان ثمن ذلك التعرض لهجمات شنيعة من قبل بينيت ومن قبل زعماء داخل حزب الليكود ذاته. ولما كانت الحرب تسبب ضوضاء، تجده يعمل على تقليص فرص اندلاع الحرب، حتى لو كان يعني ذلك قيام رقيب في الاحتياط، مثل ليبرمان، بتصويره على أنه جبان رعديد.
الشقاق ما بين حماس وفتح
ينبغي أن ينظر إلى سلوك نتنياهو تجاه حماس ضمن ذلك السياق. لم يفتأ نتنياهو، دوما تقريبا، ينسحب من حرب إبادة شاملة ضد حكم حماس في غزة، وليس ذلك لأنه يجفل خشية اندلاع العنف أو استعراض القوة. بل على النقيض تماما من ذلك، يعتقد نتنياهو بأن استعراض القوة أهم من المبادئ.
كان قد قال في لقاء فصائلي لحزب الليكود قبل أيام قليلة فقط: "الأمم الأخرى تحترم المبادئ إلى حد ما، ولكنها تحترم القوة أكثر بكثير." ولكن نتنياهو لا يريد ضجيجا، وموت الجنود في غزة يحدث ضجيجا، وموت الآلاف من الفلسطينيين يحدث ضجيجا، واحتلال قطاع غزة يعدّ بمثابة زلزال سيجذب انتباه العالم بأسره باتجاه الوضع الفلسطيني وباتجاه الاحتلال، وباتجاه حقيقة أن المفاوضات مجمدة. وذلك آخر شيء يريده نتنياهو.
ولكن، هناك شيء آخر هنا، شيء أعمق بكثير. لقد "ورث" نتنياهو الشقاق بين حماس وفتح، بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك حينما استأنف عمله رئيسا للوزراء في عام 2009، وهو يرى أن هذا الشقاق مكسب سياسي كبير.
منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين وإسرائيل تطمح في فصل غزة عن الضفة الغربية من خلال وقف إصدار تصاريح المغادرة وفرض الإغلاقات، ثم من خلال فرض الحصار على القطاع. والفكرة من ذلك هي أنه طالما ظل جناحا الكيان السياسي الفلسطيني مفصولين الواحد عن الآخر، فإن قدرة منظمة التحرير الفلسطينية، وقدرة الفلسطينيين بشكل عام، على المطالبة بالدولة ستتضاءل.
وكونه يوجد اليوم حكومتان منفصلتان، واحدة تعمل في غزة والأخرى تعمل في الضفة الغربية، فإن ذلك يمثل منجما من الذهب بالنسبة لكل من يتمنى تخريب أي عملية من شأنها أن تفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، وكما رأينا فإن نتنياهو هو بالضبط ذلك الشخص.
إعادة تأهيل غزة
ولذلك، يرى نتنياهو أن الحفاظ على حكم حماس في غزة يعدّ بمثابة مكسب استراتيجي من الدرجة الأولى، كما يرى أن أي عملية من شأنها أن تفضي إلى إقامة دولة مستقلة في غزة ومنفصلة عن الضفة الغربية فإنها عملية مباركة. ولو أصبحت غزة إمارة قائمة بذاتها، كما يحب اليمينيون وصفها، فإن ذلك سيمثل ضربة قاضية لادعاءات محمود عباس، أو أي شخص آخر من المحتمل أن يرثه، بأنه يمثل الشعب الفلسطيني في المفاوضات التي من المفروض أن تنهي الاحتلال وتقيم الدولة المستقلة.
يفسر مثل هذا التفكير اهتمام نتنياهو المفاجئ بإعادة تأهيل غزة، كما يشير إلى السبب في موافقته على دخول حقائب كبيرة، وأمام الكاميرات، وهي مكدسة بخمسة عشر مليون دولار أرسلتها قطر لدفع رواتب موظفي حماس في غزة.
كما يفسر أيضا لماذا تراجع نتنياهو تارة أخرى عن احتلال غزة. فلو أن مثل هذه الخطوة العسكرية كانت، بشكل أو بآخر، ستنجح دون أن يكون ثمن ذلك حياة المئات من الإسرائيليين والآلاف من الفلسطينيين، بل ربما عشرات الآلاف، ودون أن تتحول إلى كارثة إعلامية دولية، لوجدت إسرائيل نفسها في نهاية المطاف تسلم غزة لعباس والسلطة الفلسطينية، معززة بذلك وضعهما السياسي أمام العالم. وهذا بالضبط ما يسعى نتنياهو إلى منعه.
لا يعني ذلك القول بأن حماس صنيعة نتنياهو أو صنيعة إسرائيل كما يصر بعض الناس في فتح على القول في كل محادثة خاصة، ومن حين لآخر في بعض الحوارات العامة. ما من شك في أن حماس شوكة في خاصرة إسرائيل. ولا أدل على ذلك من أن حماس أثبتت مرة أخرى خلال جولة العنف الأخيرة أن بإمكانها بكل سهولة شل الحياة اليومية في مساحات واسعة من إسرائيل. والانطباع الذي تشكل الآن يفيد بأن قدراتها العسكرية في تحسن مستمر، وأنها ستصبح في المستقبل أكبر خطرا، ربما ليس مثل حزب الله، ولكن ليس بعيدا عن ذلك المستوى.
ورطة نتنياهو
ولكن نتنياهو في ورطة حقيقية. فمن ناحية، ولكل الأسباب المذكورة آنفا، من المهم جدا بالنسبة له إبقاء حماس في السلطة في غزة. ولكن من ناحية أخرى، طالما أن حماس تحكم غزة فلن يكون نتنياهو قادرا على إضفاء إحساس بالأمن على مئات الآلاف من الإسرائيليين في جنوب البلاد. ولكن، وبسبب أنه يعارض من حيث المبدأ أي مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين، فإنه لا يوجد لدى نتنياهو مسار نحو اتفاقية طويلة المدى من شأنها أن تجلب الهدوء. ولذا، لا مفر أمامه من الموافقة على التفاهم مع حماس.
تدرك حماس جيدا الورطة التي يعاني منها نتنياهو، وتعلم أن نتنياهو يعلم أنه لن يحاول مسحها من الخارطة. ولذلك فبإمكان حماس أن تطلق المئات من الصواريخ على إسرائيل في الظروف الحالية، لعلمها أن نتنياهو سيوافق في النهاية على وقف لإطلاق النار مع حماس حالما تعرض الحركة ذلك عليه عبر وساطة مصرية. ولقد استغلت حماس هذه الورطة لتحقيق انتصار سياسي بين في الجولة الأخيرة من العنف، وقد تمكنت من خلال إنجازها ذلك كشف ما يعانيه نتنياهو من ضعف.
قد يكون نتنياهو مدركا لهذه الورطة، ولكن أخذا بالاعتبار أنه يرى رسالته التاريخية تتمثل في منع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، فإنه على استعداد لدفع ثمن سياسي لما قد يعتبره الجمهور جبنا وخوارا. ولكن الثمن السياسي الذي تكبده هذه المرة كان مرتفعا للغاية.
يمكن افتراض أن استقالة ليبرمان ستحفز على إجراء انتخابات جديدة، وأنها ستنهي فترة نتنياهو الرابعة في الحكم، والذي بدا، حتى وقت ليس بالبعيد، راسخا. سيكون من سخريات القدر بكل تأكيد أن تتسبب حماس، التي عمل نتنياهو بكل جد لإبقائها حية لتدرأ عنه تهديدات عباس، في إنهاء فترة حكم نتنياهو.
لقراءة المقال من الصحيفة اضغط (هنا).