هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشر الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله مقالا في موقع شبكة "سي إن إن" الأمريكية الناطق بالعربية، تناول فيه قضية الإعلامي السعودي جمال خاشقجي الذي اختفى الأسبوع الماضي بعد مراجعته قنصلية بلاده في إسطنبول التركية.
وتحول اختفاء خاشقجي إلى قضية رأي عام عربية ودولية بعد التقارير الغربية والعربية التي تحدثت عن تورط السلطات السعودية في قتله بعد اختطافه في قنصلية بلاده التي راجعها للحصول على أوراق رسمية.
ويستعرض كاتب المقال تفاصيل لقاءات جمعته بالإعلامي خاشقجي في أكثر من مكان، وتناول مخاوفه من الاعتقال لدى السلطات السعودية في حال بقي في المملكة، وموقفه من معارضة النظام السعودي.
ويدافع الأكاديمي الإماراتي عن خاشقجي، ويقول إن "جمال الذي أعرفه لا يستحق هذا المصير ولم يسعَ لمثل هذا المصير، فهو من أكثر الأشخاص نبلا وهو اسم على مسمّى في جمال خلقه".
إلا أنه في ذات الوقت يعتبر أن خاشقجي "تجاوز خطوطا حمرا عديدة بما في ذلك ملامسة رموز وطنية.. وأضخم خط أحمر هو المساس بأفراد من الأسرة الحاكمة. في واشنطن اختلطت على جمال الخطوط الحمر بالصفر واندفع بعيدا في عوالم لم تكن في صالحه ولا في مصلحة بلده".
وتاليا نص المقال كاملا:
منذ أسبوع والإعلامي السعودي جمال خاشقجي في عداد المفقودين ومع مرور كل يوم يزداد لغز اختفائه غموضا. جمال الذي يحرص كل الحرص على الحضور الإعلامي توقّف عن الكتابة فجأة، ثم غادر السعودية والآن هو دخل قائمة الأشخاص المختفين في العالم، وهو أسوأ مصير يمكن أن يتعرّض له الكاتب والمثقف، فمن يدخل هذه القائمة السوداء لا أحد يعرف مصيره إن كان حيا أو ميتا.
جمال الذي أعرفه لا يستحق هذا المصير ولم يسعَ لمثل هذا المصير، فهو من أكثر الأشخاص نبلا وهو اسم على مسمّى في جمال خلقه.
جمال خاشقجي الذي أعرفه عن قرب لم يكن يرغب في لحظة من اللحظات أن يغادر وطنه، ويعيش بعيداً عن أسرته الصغيرة والكبيرة. قال لي في آخر لقاء به في واشنطن: إن أصعب قرار اتخذه في حياته هو مغادرة السعودية والعيش في الغربة. فكل يوم في الغربة هو عن ألف يوم من المشقة.
سألته لماذا إذاً غادرت. ردّ جمال وهو في حرج من السؤال: الخوف من الوضع الصعب الذي يزداد صعوبة في السعودية. لقد كان الوضع صعبا لكنه أصبح لا يحتمل الآن.
ثم أضاف قائلا: خفت أن أسجن، كما سجن غيري لأسباب غير مقنعة وغير مبررة. لقد هربت من احتمال أن أُسجن. فأنا لا أتخيل نفسي خلف زنزانة حديدية كما هو حال أصدقاء لي من شخصيات كانت في يوم من الأيام مقرّبة من أصحاب القرار. ثم أن السجن لا يليق بي بعد كل ما قدمته لوطني، ولا يليق بوطني. لذلك قررت الخروج سريعاً وعلى عجل والابتعاد مؤقتا. لم أهرب من الوطن، بل هربت من شبح السجن الذي أخذ يطاردني.
بجانب الخوف الذي كان يستشعره جمال من احتمال الزج به في السجن، فقد تلقى نصيحة أخوية من شخصيات رفيعة بأن عليه مغادرة السعودية سريعا.
في لقاء آخر جمعني بالإعلامي جمال خاشقجي في واشنطن في 2 يوليو/تموز، أي قبل 3 أشهر قال لي إنه في حيرة تجاه البقاء في واشنطن. قال ما معناه إنه سئم الغربة ويشعر بالوحشة من عدم رؤية أبنائه والتواصل مع اصدقائه.
لكنه أكد أنه على اتصال مستمر مع جهات رسمية ترغب في عودته الى السعودية، بل أكّد أنه تلقى عروضا ليخدم في مواقع استشارية. ويبدو أيضا أن أحد الوزراء اتصل به ليشكره على مقال كتبه في صحيفة "واشنطن بوست" يمتدح اتخاذ قرارات إيجابية وتصب في سياق الإصلاح وتخفيف التشدد الديني الذي سيطر على السعودية ردحا من الزمن.
لم ينقطع حبل الوصل والتواصل مع السعودية، لكنه لم يتمكن من التجاوب مع دعوات عودته. ذرة الشك والخشية لم تكن تغادر قلبه وكان يساوره أسوأ الظنون. لم يشعر بالإطمئنان التام. وعلى الرغم من إيمانه وقوة شخصيته، كان جمال قلقا يحسب حساب كل صغيرة وكبيرة. كانت الغربة صعبة والعودة أصبحت أصعب.
وما زاد من صعوبة اتخاذ قرار العودة أنه كان مستمتعا بما كان يكتب في صحيفة "واشنطن بوست" وما حصل عليه من أضواء في عالم الصحافة. كان جمال يتمتع بالشهرة ولم يكن بحاجة للمزيد منها، لكن الشهرة على الصعيد العالمي لها طعمها الخاص. فلم يعد جمال كاتبا سعوديا وعربيا مرموقا بل بلغ الآن العالمية، وأصبح يكتب في أهم صحيفة أمريكية مؤثرة في صنع القرار في واشنطن، أهم عاصمة في العالم. انتقل جمال من المحلي إلى الإقليمي ثم إلى العالمي بسرعة البرق. اعتقد جمال أن بلوغ كاتب سعودي الى العالمية رصيد له ومكسب لوطنه لا بد أن يحافظ عليه بأي ثمن. لقد كان الثمن باهظا، فقد كان عليه أن يواصل الكتابة الناقدة، ومع كل مقال ناقد جديد اتسعت الفجوة بينه وبين أصحاب القرار في الرياض.
في واشنطن وجد جمال أن لا حد ولا حدود لسقف الحرية. انتشى جمال، التواق للحرية، بهذا السقف المرتفع لحرية التعبير، مما دفعه ليتجاوز خطوط حمراء عديدة بما في ذلك ملامسة رموز وطنية. جمال يدرك تماما ثمن التعرض للرموز، خاصة رمز وطني بمستوى ولي العهد. الكل في دول الخليج يعرف فداحة تجاوز الخطوط الحمراء المرئية وغير المرئية، وأضخم خط أحمر هو المساس بأفراد من الأسرة الحاكمة. في واشنطن اختلطت على جمال الخطوط الحمراء بالصفراء واندفع بعيدا في عوالم لم تكن في صالحه ولا في مصلحة بلده.
سألته ذاته مرة: هل قررت البقاء في الخارج بشكل نهائي والتحول إلى معارض للنظام. هذا ما يوحي به مقالك الآخر في "واشنطن بوست".
رد جازما: لن أكون معارضا، وإنما ناصحا صادقا، نعم اخترت البقاء، إنهم يعتقلون الصامتين يا صديقي.
جمال الذي أعرفه لا يرغب أن يعيش خارج بلده، فهو يعشق وطنه ويدافع بغيرة عن دولته. حضرت مع جمال عشرات الندوات خلال السنوات العشر الأخيرة في عواصم عديدة وفي كل مناسبة كنت شاهدا على صدق دفاعه عن وطنه عندما تتعرض السعودية لنقد جائر. لا يساوم على السعودية ويخاصم كل من يخاصمها. هكذا عرفت جمال وقدّرت فيه اخلاصه لبلده. جمال الذي أعرف يكره أن يُقال عنه إنه معارض لحكومته. يكره هذه الصفة كرهه لإبليس. فهو ابن المؤسسة وتربى في عزها. انتقد سياسات حكومته واختلف مع رجالات دولته، لكن لم ولن يكون حاملاً لواء المعارضة.
ثم أن جمال الذي أعرفه لم يكن ينتمي للإخوان تنظيميا. ربما كان في شبابه على علاقة ما بتنظيم الاخوان. لكنه سرعان ما ابتعد عنهم كتنظيم. جمال الذي أعرفه كان يدافع عن حقهم في المشاركة السياسية. كان يتعاطف مع تيار الإسلام السياسي. وكان يحمل قناعة ساذجة أن الديمقراطية لا تتحقق في العالم العربي بدون مشاركة هذا التاريخ. هذه المواقف السياسية جعلته محبوبا لدى جماعة الاخوان بل ذهبوا بعيدا في الترويج له كعضو في التنظيم وهو بريء براءة قميص عثمان مما يدعون.
كذلك كان جمال الذي أعرفه من أكبر المدافعين والمتحمسين والمؤيدين للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. كان مؤمنا بالمشروع "الأردوغاني"، وذهب بعيدا في بحماسه إلى درجة أنه نصّب نفسه كحلقة وصل بين السعودية وتركيا ووظّف قدراته الفكرية من أجل التسويق لحلف سعودي تركي قادر على التصدي للمشروع الإيراني التوسعي في المنطقة العربية. كان هذا حلم حياته وأصيب بأكبر خيبة عندما تبعثر هذا الحلم مع بروز التنسيق السعودي الإماراتي.
كل حبه لأردوغان أكبر مجال اختلاف مع جمال. فعندما رفعت ذات مرة سقف انتقاداتي لممارسات وسياسات أردوغان، كتب لي منفعلا: أرجوك توقف، تستطيع أن تنتقد أردوغان وتركيا بأكثر من طريقة إلا أن تساوي بينه وبين الخميني وإيران، فهذا صديق وذاك عدو. ثم أضاف في تلك الرسالة، قائلا: "تستطيع أن تنتقد الإسلام السني من أكثر من باب، الا أن تضعه في صف عدو كالإسلام الشيعي المتطرف الذي رفع علينا السلاح ".
كان ردي عليه موجزاً: لم أعد أتحمل تمجيد وتقديس الإخوان لأردوغان، لقد زاد التمجيد عن حده ولا بد من نقده بقوة وبوضوح أكبر، فانا لا أجد اختلافا كبيرا بينهم وبين تقديس بعض الشيعة لخامنئي وسليماني وحسن نصرالله.
هذا كنا نتبادل النصائح بعيدا عن الجمهور عبر عشرات الرسائل وأحيانا نختلف علنا أمام الجمهور في موقع توتير، لكن دائما باحترام وود. فجمال الذي أعرفه حق المعرفة كان صديقا ناصحا ونصوحا وكنت صديقا ناصحا ونصوحا أيضا.
جمال الذي أعرفه يستحق احترامي وتقديري، وجمال الذي أعرفه لا يستحق أن يختطف، ولا يستحق أن يعامل معاملة خاطئة تحط من كرامته وانسانيته، وحتما لا يستحق أن يتعرض للاغتيال. من يفكر باغتيال الإنسان النبيل جمال خاشقجي، أو يروّج لإشاعة اغتياله حقير بل هو أحقر البشر.