من المهم أن نؤكد أن حديث المعارضة والمقاومة للنظام الانقلابي في
مصر هو حديث محفوف بالشجون، خاصة هؤلاء الذين خرجوا من مصر تحت الضغوط وإنقاذا لحياتهم ومواقفهم، إلا أنه في حقيقة الأمر أن المواقف التي اتخذت بعد ذلك والكيانات التي أعلنت والأدوار التي قام بها هؤلاء؛ لم تكن تكافئ تلك الأهداف التي تتعلق بمواجهة الانقلاب من ناحية، وبتحقيق تلك الغايات المتعلقة بالحفاظ على الزخم الثوري من ناحية ثانية، فضلا عن أن هذه الأدوار لم تكن بأي حال من الأحوال تعكس آمال هؤلاء عند خروجهم من مصر. وتراكمت هذه الفجوة زمنا بعد زمن، خاصة أن هذه الكيانات المختلفة؛ بدلا من أن تمارس عملا تنسيقيا، مارست في معظمها كثيرا من المزايدات على بعضها البعض، ومزيدا من المعارك الجانبية التي انصرفت إليها من دون أن تركز على جوهر الأهداف والمقاصد التي يجب أن تقوم عليها وتعمل لتحصيلها وبلوغها.
كذلك، فمن المهم أن نؤكد أن معارضة الخارج والمقاومين للانقلاب، رغم أنهم يتمتعون بمساحات لا بأس بها من حرية الحركة والقدرة على الفعل ومواجهة سياسات النظام الغاشمة والفاشية في الداخل، ولكن عن بعد من الخارج، فقد كان من المهم أن تقوم المعارضة في هذا المقام بوضع استراتيجيات حقيقية في ما يتعلق بمواجهة الانقلاب والسلطة الحاكمة في مصر وفضح السياسات البوليسية والفاشية، وكذلك العمل على تأسيس استراتيجية خطاب يتواصل فيه مع ثلاثة أصناف: الناس في داخل مصر، والتواصل مع المؤسسات والتجمعات المدنية في الخارج، وتوظيف كل الطاقات التي تتعلق بخطاب يجعل القضايا المصرية فيما بعد الانقلاب؛ لتكون حاضرة بارزة على كافة المستويات خارج مصر وفي المؤسسات الدولية.
وهنا من المهم أن نؤكد أن الفصيل الأكبر الذي تمثل في الإخوان المسلمين بعد أن قاد تحالف دعم الشرعية وقام بمعارضة هذا الانقلاب ومقاومته بكل أشكال التحريك في الداخل، إلا أنه بعد فترة من الزمن ومع مرور الشهور بل والسنين، ومع تبني شعار الانقلاب يترنح، فإذا به مع مرور الوقت يثبت أركانه حتى استطاع أن يدشن نظام الثالث من تموز/ يوليو. وكان أخطر ما حدث للمعارضة في الخارج هو ذلك الانقسام الذي بدا واضحا داخل الإخوان، وهو أمر لم يؤثر فحسب على
الثورة وحركة استئنافها، بل أثر على جملة المشروع الإسلامي، وأكثر من ذلك أثر على تنظيم الإخوان ذاته وفاعليته، فانحسرت مقاومة الانقلاب على الأرض، وزادت مساحات الإحباط بين شباب الإخوان، وبات الأمر مع هذا الحال يشير إلى تراكمات في فجوات الدور الذي يمكن أن تقوم عليه القوى الفاعلة والمعارضة والمقاومة لمنظومة الانقلاب ونظام الثالث من يوليو، وكذلك لم تستطع القوى السياسية الأخرى والمستقلون أن يقوموا بالعمل اللازم لمواجهة حالة الفرقة والاستقطاب التي استمرت مع معارضة الخارج، ظاهرة في تجليات سلبية متعددة على السطح في مناسبات متعاقبة.
إضافة إلى ذلك، فإن معارضة الخارج في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وفي أماكن عدة في شرق آسيا، لم تقم بالتنسيق الواجب فيما بينها وكتلة المعارضة الأساسية المتواجدة على أرض تركيا، بل لم تنهض المعارضة والمقاومون للانقلاب بأي دور فعال في التواصل مع قيادات وشخصيات مؤثرة من دول عربية أخرى من بلاد الثورات العربية، حتى تمكن لرؤية استراتيجية قادرة على الفعل والفاعلية، وقادرة على أن تحقق اصطفافا؛ ليس فقط بين قوى مصرية في تركيا وفي البلاد الأخرى، بل أن تحقق اصطفافا بين هذه القوى والقوى العربية في دول الثورات، خاصة هذه الشخصيات الموجودة في تركيا، وعلى الأخص إسطنبول، رغم أن الاستهداف الإقليمي والدولي من القوى المضادة للثورة كان استهدافا يتخطى الحدود، وكان على هؤلاء أن يقدموا حالة من الوعي بتلك الثورات وما آلت إليه؛ في إطار تتعلم فيه الثورات العربية على بعضها البعض وتتبادل الخبرات فيما بين أهلها.
فضلا عن ذلك، فإن الخطاب الاعلامي والمؤسسات الإعلامية التي نشأت تنافح عن الثورات، وخاصة تلك القنوات المصرية في "إسطنبول" التي لا شك قدمت جهودا لا يمكن إنكارها في مواجهة المحاولات الانقلابية من قبل القوى المضادة للثورة، إلا أنها في حقيقة الأمر لم تتبن رؤية استراتيجية للخطاب الإعلامي تحاول أن تقوم بدورها في الترويج والإعداد لاصطفاف المعارضة والقوى المقاومة وضرورة وأهمية ذلك. إلا أن بعضها، ولأغراض إعلامية محضة، انزلق في كثير من الأحيان إلى دائرة خطاب الاستقطاب، ما أدى إلى تأخر المعارضة وتعويقها في القيام بأدوارها الحقيقية التي يجب أن تنهض بها وعليها، مما شكل إحدى النقاط التي قصرت في القيام بأدوارها، رغم أنها كانت مرشحة لتجسير تلك الفجوة في أدوار تلك المعارضة، إلا أنها لم تقم بالدور على النحو المطلوب أو المأمول.
ومن هنا، فإننا نؤكد أن المعارضة وضمن كياناتها المختلفة لا زالت تعاني من ثلاثة أزمات خطيرة، الأولى هي أزمة الاصطفاف والخروج من حالة الاستقطاب، رغم أن المعارضة لم تكن من لون واحد، مما يعطي رسالة مباشرة بأن الجميع قد أصابه الضرر الفادح من جراء هذه الحالة الانقلابية، وأن تشابههم في الحالة كان من الواجب أن يكون دافعا لتأسيس منصات اصطفاف تُحتذى، وتحاول أن تستنفر الداخل لنفض كل ما يتعلق بالسياسات أو خطابات الاستقطاب، وبما يشكل حالة يمكن أن تسهم في سد هذه الفجوة، ليس فقط بين قوى المعارضة في الخارج، ولكن بين قوى المعارضة في الداخل والخارج، خاصة أن تلك الأمراض المزمنة التي تتعلق بالاستقطاب هي أوضح ما تكون، وأن هؤلاء الذين يغذون هذه الحالة الاستقطابية من خلال خطاب يخدم في النهاية أهداف المنظومة الانقلابية، ومعروفون بالاسم وفي شكل خطابهم، إلا أن هؤلاء ظلوا يقتاتون على صناعة الفرقة وظلوا يقومون بهذه الأدوار.. لا ندري لمصلحة من يقوم هؤلاء بهذه الأدوار، إلا أن يصب ذلك في مصلحة النظام الانقلابي نظام الثالث من تموز/ يوليو.
هذه الأزمة التأسيسية للرؤية الاستشرافية التي يجب أن تنقض حالة الاستقطاب أثرت كثيرا، حتى في أن تقوم بأقل الخطوات وأضعف الإيمان في مقاومة النظام الانقلابي، ألا وهو التنسيق في إطار الملفات الكبرى بين القوى المتنوعة للمعارضة، واستثمار هذا التنوع السياسي والفكري، بل والجغرافي، في مثل هذه الأحوال. مثّل هذا الأمر أزمة ملحقة تتمثل في أزمة تنسيق في الأفعال والأعمال والمواقف؛ ورؤى الحد الأدنى التي تشكل معملا لعلية التوافق السياسي اللازم والمطلوب.
وتأتي الأزمة الثالثة، وهي أزمة الخطاب، لتعبر عن عدم القدرة على إنتاج خطاب فعال في ما يتعلق بخطاب المشروع السياسي للمعارضة، وكذلك الخطاب الاصطفافي وتدشين خطاب إعلامي واعٍ لا يكتفي بأن يكون مجرد ردود فعل، ولكن عليه أن يقدم سياسات بنائية لمواجهة السلطة الانقلابية وسياساتها الفاشية، بما يؤكد على إمكانية هذا الخطاب الإيجابي في أن يحقق أحد أهم الواجهات لخطاب معارضة ناضج؛ يقدم رؤية ومشروعا سياسيا تحدد فيه خطط عمل وملفات وبرامج حركة حقيقية تستثمر كافة الطاقات، حتى يمكن أن تبني استراتيجية خطاب حقيقية. تستحق استراتيجية الخطاب مقالا مستقلا يعالج فجوة الخطاب والاتصال.