سنعود إلى قصة الجندي السوري، الذي صارت جزمته نصباً تذبح عليه الأوطان، وأجره الشهري لا يجاوز 16 دولاراً، ومُنع مؤخراً من التجول بين المدنيين بزيّه المخيف، ولا يجد سكناً له وهو يؤدي واجب خدمة العلم مدة ثماني سنوات. والعَلَم هو الجزمة، فاتخذ باب شرقي سكناً، وأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.
تقول الحكاية الشعبية: إن التنّين قعد على درب الناس، ومنعهم الماء، وطرح عليهم أحجية، من يحزرها يشرب، وأحجية التنين السوري، هي الهوية، وقد يسأل التنين العسكريُ العابرَ عن ربه: من هو ربك ولاه؟ ولن يسلم من الأذى حتى لو آمن بربه المقيم في الجزمة. ومن صفات الظالمين الذين أنزل الله عليهم رجزاً من السماء، أنهم كانوا يقطعون السبيل، وكثر قطع السبيل في
سوريا، فكلها حواجز.
خذ أي خزعة من دم نظام
الأسد، أو أي خلية من خلاياه الطائفية المتنكرة باسم حزب البعث العربي، خذ شعرة من رأسه، خذ قلامة برثن من براثنه، ستجد أنه مريض بالمحو من جهة، والبري من جهة أخرى. طبعُ الملك المصعر خده، الذي سام الناس خسفا، يتجلى في جنده.. الناس على دين ملوكهم، فكيف بالجنود، وهم مطبوعون على الطاعة؟ وكان طبعه أن يمحو ذاكرة الأكثرية، ويبري أقلية واحدة، ثم محاها بالبراميل مع ذكرياتها، ومكث غير بعيد ناسكاً في محراب الحرب على التاريخ العربي، والإسلامي منه خاصة، ممجداً التاريخ البعيد الذي يعود إلى عشرة آلاف عام، وهذا التاريخ ليس سوى أساطير ذرتها ريح الزمن.
كل خلية من خلايا النشوء والارتقاء الأسدي تدل على أنه جعل همه إقصاء الشعب السوري عن تاريخه، وبناء السدود بينهما. ثورة الثامن من آذار المجيدة، التي جاء على متنها، تشبه عملية "البيغ بانغ" أو الانفجار الكبير، فهي غامضة، لا يعرف أحد عنها شيئاً سوى أنها مجيدة، وضد الإقطاع والرجعية، وجاءت من أجل تحقيق تكافؤ الفرص، وتكافؤ الفرص يعني أن يتولى "أهل الريف" شؤون البلاد، على حساب أهل المدينة الذين وجدوا أنفسهم في الريف، مبعدين عن إدارة شؤون بلادهم، أو في المنافي، أو في المعتقلات، تبديل التاريخ وتزويره يقتضي تبديل الجغرافيا.
منع الرئيس الشعب من السياسة، ومن الاجتماع، ومن الرياضة، مع أن مؤسس نظام المحو كان يرى في الرياضة حياة، حسب الشعارات، ومنع الكتابة ونشر الغسيل الوسخ في الصحافة، وهو الذي وسّخ كل الغسيل، ومع أنه قال: "لا أريد لأحد أن يسكت على الخطأ، أو يتستر على العيوب والنواقص؛ لأن مثل هذا التستر سيحقق تنامي العيوب والأخطاء وتراكمها، مما يمكن أن يؤدي مع مرور الزمن إلى هدم ما بنيناه". فصدق الأسد، فجرف نظامه، نظام المحو والمبراة، القيم والتاريخ من الكتب، فمرحلة مناهج التعليم قبل الأسد، كان فيها ذكر لبطولات خالد بن الوليد، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، ثم صار أبطال الشعب رامبو، وعلي الديك، وباسم ياخور.
وفي الدراما التلفزيونية، وهي إحدى إنجازات النظام، ساد مسلسل ضيعة ضايعة، وبرزت الفانتازيا التاريخية. أما مسلسل باب الحارة الذي يوثق للتاريخ القريب، فتسربت إليه شخصيات من قوم كسرى لمغازلة إيران، وقوم موسى لمغازلة إسرائيل، تحت اسم الوطنية، والتجانس، والتجانس محو. ممحاة التجانس إحدى أدوات النظام للحذف والإزالة. طبعاً قدم تلفزيون النظام مسلسلات لشخصيات تاريخية، لكن أبطالها الذين جسدوا حياة صلاح الدين، وعبد الرحمن الداخل، وخالد بن الوليد، كانوا بعد انتهاء أدوارهم، يصفقون للنظام. لنتذكر أن النظام شوّه تمثال رمز الوطنية السورية يوسف العظمة، فارتكبت فيه أخطاء مقصودة.
خبر باب شرقي، الذي صورته نشرات الأخبار، يقول: إن جندياً يقطع السبيل على الشعب، طلب سكنا على الحاجز، فتكرمت عليه السلطات بسرعة الإجابة، وأباحت له تحويل الباب إلى ثكنة، وهي من الأبواب السورية القديمة التي تصلح أن تكون متحفاً وذكرى، وهو في حي دمشقي عريق، فسدّته وردمته بأحجار عادية. وقديماً كانت السلطات الثقافية ترمم الآثار بأحجار من جنسها، سدّته كيفما اتفق. حال الباب الذي سُدّ بالبلوكات، يشبه حال الجيش، الذي ردف بجيوش إيرانية وروسية هجينة. النظام فتح كوة في ثكنة الباب، غير متوفرة في زنزانات المعتقلين. هذا نظام لا يفقه شيئاً في السياسة والثقافة، والتاريخ والجغرافيا شيئاً. القاعدة تقول: الطغاة يخافون من الذكريات. جيل الحركة التصحيحية لا يعرف شيئاً عن تاريخه الحديث قبل الحركة "المباركة".
لقد صادر نظام الممحاة أوقافا إسلامية، وأراضي خاصة، وحدائق عامة، ومن قبلها إرادة الشعب، وهي أغلى ما في سوريا، ويأتي في نواديه كل المنكرات، وأغلق على الشعب بابي التاريخ إلى الماضي وإلى المستقبل، وفتح الأبواب للغزاة.