هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يوم السبت الماضي، في نهار قائظ ومغبر من أيام القاهرة المعتادة، صدر حكم بالإعدام على خمسة وسبعين شخصا في محاكمة مخزية وهزلية، سيق إليها ما يزيد عن سبعمائة شخص ليمثلوا أمام محكمة جنايات القاهرة، بتهم يزعم الادعاء أنهم ارتكبوها في المدينة في عام 2013.
صدرت على المئات منهم أحكام تتراوح ما بين السجن لخمسة أعوام والسجن مدى الحياة. من الجرائم التي اتهموا بارتكابها توثيق المعاملة الوحشية التي تعرض لها المتظاهرون على أيدي قوات الأمن المصرية، وما وقع بعد ذلك من سفك للدماء.
يعد يوم فض الاعتصام في ميدان رابعة في عام 2013 من أحلك الأيام التي مرت على مصر في تاريخها المعاصر، فقد شن الجنرال السيسي هجوما عنيفا لم يبق ولم يذر على تجمعين للمعتصمين، فقتل خلال ساعات ما لا يقل عن تسعمائة من أنصار الرئيس مرسي، الذي كان قد أطيح به في انقلاب عسكري.
ما وعدت وزارة الداخلية بأن يكون تفريقا تدريجيا ومدروسا ومترو للمعتصمين، أصبح كما تقول منظمة هيومان رايتس ووتش، واحدا من أكبر المذابح التي يتعرض لها متظاهرون في يوم واحد في التاريخ الحديث، حيث استخدمت ضد الجماهير المحتشدة العربات المصفحة والغازات المسيلة للدموع وبنادق القنص. أطلقت النيران على الشباب فأردتهم قتلى، بينما تعرض على الأقل شخص واحد للحرق حيا داخل خيمته.
لقد كان الحكم الذي أصدرته المحكمة يوم السبت سياسيا بامتياز، ذهب معه أدراج الرياح كل زعم بالنزاهة والعدالة، وكيف لا وقد زجت السلطات بالمئات من الأفراد الذين حرموا حق الدفاع عن أنفسهم لتصدر عليهم أحكام جماعية. كانت المحاكمة من ألفها إلى يائها تنعدم فيها كل معايير المحاكمات العادلة، وإن كانت قد أنهت فترات طويلة من الاعتقال الذي سبق المحاكمة استمر لمدد تجاوزت العامين، وهو الحد القانوني المنصوص عليه في قانون البلاد. رفض القاضي السماح بتقديم الأدلة التي كانت تصب في مصلحة الدفاع عن المتهمين، ولم يسمح إلا لنزر يسير من شهود الدفاع بالمثول أمام المحكمة للإدلاء بشهاداتهم. في الوقت نفسه، لم يقدم الادعاء أدلة كافية لإثبات الجرم الفردي، حتى إن منظمة العفو الدولية أدانت، وكانت في ذلك محقة، المحاكمة باعتبارها استهزاء مذهلا بالعدالة، ونددت بالحكم الصادر عنها باعتباره "ظلما صارخا".
من الواضح أن ذلك كان انتهاكا فاضحا عن سبق إصرار وترصد للمعايير العالمية وللقانون الدولي، وإن كان في واقع الأمر مجرد تعبير آخر عن حالة الاستعباد التي تخضع لها البلاد تحت هيمنة الجنرال السيسي، الذي يقف من وراء المذبحة التي ارتكبت في الرابع عشر من آب/أغسطس 2013.
ولكن، على الرغم من التنديد الصادر عن منظمات حقوق الإنسان وعن مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، يبدو أن صمتا قاتلا ساد أرجاء المجتمع الدولي إزاء ما حصل، فلم نجد لدى بريطانيا والولايات المتحدة ما تقولانه ردا على الحكم (أو حتى خلال انحطاط مصر السريع نحو قعر من الظلم والاستبداد خلال نصف العقد الماضي).
فمنذ عام 2013، أحكم السيسي قبضته على البلاد، حتى باتت السجون تعج بما لا يقل عن ستين آلف معتقل سياسي، أي ما يزيد عن عشرة أضعاف عدد من كانوا معتقلين في عهد حسني مبارك الذي أجبر على التنحي من الحكم. من الجدير بالذكر أن عشرين من المعتقلين هم مواطنون أمريكيون، ومع ذلك من الواضح أن السلطات في الولايات المتحدة لا تأبه بانتهاكات حقوق الإنسان، التي ترتكبها قوات الأمن المصرية على نطاق واسع لم يسبق له مثيل، بل تقف إزاء ذلك مكتوفة الأيدي، كما صرحت بذلك مسؤولة منظمة العفو الدولية ناجية بونعيم.
ويزيد الطين بلة، ازدواجية المعايير التي تصدر عن الرئيس ترامب فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، حيث إنه حينما سجن مبشر أمريكي اسمه أندرو برانسون في تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد الرئيس أردوغان، هدد ترامب بفرض عقوبات واسعة ضد تركيا – التي هي حليف في الناتو – وقال عبر حسابه في تويتر، إنه "يتوجب إطلاق سراح رجل الدين البريء في الحال".
مما يثير الاستغراب، أن مصطفى قاسم الذي يعمل سائق سيارة أجرة في نيويورك، ألقي القبض عليه قبل خمسة أعوام حينما كان يزور زوجته وأطفاله في مصر، ولكن لم يحظ برد الفعل نفسه، وكان مصطفى قاسم، مثله في ذلك مثل الآخرين الذين ألقي القبض عليهم في تظاهرات عام 2013، يجدد حبسه كل خمسة وأربعين يوما على مدى الأعوام الخمسة الماضية. ويوم السبت صدر بحقه حكم بالسجن خمسة عشر عاما، ولم تفلت كلمة واحدة من فم الرئيس تعقيبا على ما جرى.
ليس المقصود هنا القول بأن الرئيس ترامب يغمض عينيه عما يجري من أحداث في مصر، بل على العكس تماما، فقد أشاد بالرئيس السيسي معتبرا إياه "شخصا رائعا". وفي شهر تموز/يوليو، أفرجت إدارة ترامب عن 195 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر، وذلك بالرغم من امتناع السيسي عن إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين الأمريكيين، أو إخفاقه في الامتثال للشروط الثلاثة التي وضعها وزير الخارجية السابق ريكس تيلارسون.
وكان الموقف الأمريكي إزاء ذلك هو أن إنفاق المساعدات إنما جاء "في سياق جهودنا لتعزيز هذه العلاقة." ولكن في واقع الأمر، يمثل استئناف المساعدات بهذا الشكل ركلة في وجه السجناء السياسيين الذين يعاقبون، لا لشيء سوى سعيهم للاحتفاء بالقيم التي يفخر بها الأمريكيون من حرية التعبير والتجمع، وكذلك للمواطنين الأمريكيين الذين غيبوا عن بلادهم وباتت تفصلهم عنها بحار ومحيطات وقضبان الزنازين.
لم تتم محاسبة ضابط أمن واحد عن الجرائم التي ارتكبت في عام 2013، ومازال المدبر الرئيسي للمذبحة ينتظر المثول أمام العدالة. بل والأدهى والأمر من ذلك، أن السيسي الذي أعيد انتخابه في شهر آذار/مارس في انتخابات هزلية، كان منافسه فيها واحدا من أنصاره، ينتعش ويتقوى بسبب اللامبالاة الغربية بما آلت إليه الأوضاع في مصر، ولا يوجد ما يشير من قريب أو بعيد إلى أنه ينوي التخفيف من حدة القمع الذي تمارسه أجهزته، والعدول عن المنهج الاستبدادي الذي يلجأ إليه في الحكم.
ومن المؤكد أنه فيما لو استمر المجتمع الدولي في الوقوف متفرجا ومتجاهلا جرائمه، فإنه يبعث بذلك برسالة إلى كل المستبدين والطغاة في العالم مفادها: ليس فقط أن الأنظمة الوحشية سيتم السكوت عن ظلمها وبطشها، بل قد يكافأ المجرمون فيها ويحظون بالإشادة.
ولهذا السبب، ينبغي الرد على أحكام الإعدام التي صدرت يوم السبت، والتي وصفتها الأمم المتحدة بأنها تمثل إخفاقا في إقامة العدالة يستحيل التراجع عنه فيما لو نفذت الأحكام، بحزم وحسم، وينبغي أن تصدر بحقها إدانات واضحة من جميع الديمقراطيات الليبرالية في العالم.
لا يجوز لنا أن نلتزم الصمت عندما يتصرف الطغاة بهذا الشكل الذي يمثل تجاهلا سافرا للأعراف الأساسية للنزاهة والعدالة. مثل هذا الرد القوي لا يعول عليه فقط خمسة وسبعون مصريا صدرت بحقهم أحكام بالإعدام، بل يعول عليه جيل كامل من المصريين الذين يشهدون الآن عودة محبطة للأيام الحالكة للحكم العسكري. إنها عودة تبعث فعلا على الاكتئاب.
ترجمة خاصة لـ"عربي21" عن جريدة "ذا هيل" البريطانية
تساهل الاتحاد الأوروبي مع إجراءات السيسي الوحشية يسعّر العنف بسيناء