عليك بالناركو، وهو اسم الدلع لتاجر
المخدرات بالجملة، وما ذكرت الكلمة المشتقة من جذر يوناني لاتيني قديم، إلا وتذكر الناس كولومبيا والمكسيك أكبر منتجي وموزعي الكوكايين، ولاحقا الماريوانا، وأقراص الهلوسة بمختلف مسمياتها.
ليس من الشطط القول بأن الكوكايين هو المركز الذي تدور حوله المجموعة الشمسية، بسبب مركزيته في الاقتصاد العالمي، فالكوكايين في واقع الأمر أعلى شأنا وقيمة من الذهب والنفط، اللذين يتطلب الحصول عليهما الحفر والنحر، وتركيب الآليات الضخمة، ثم الغربلة والفلترة، ليجد المنتج النهائي طريقه للسوق.
وفي المقابل، فإن مزارعين بسطاء يُكلفون بزراعة الكوكا، وتتولى منظمات صارت تعرف بالكارتيلات (الواحدة منها كارتيل)، والكلمة في أصلها تعني "مجموعة من الشركات والموردين، تحتكر سلعة وتتحكم في أسعارها، وقياسا على هذا، فمنظمة أوبيك كارتيل، وإن كادت تفقد ميزة التحكم في أسعار النفط، لأن بعض أعضائها من السخاء بحيث يستجيبون لـ"ما يطلبه المستهلكون".
وتتم معالجة أوراق شجرة الكوكا كيميائيا لاستخلاص كوكايين نقي، ثم تتم إضافة مواد من هنا وهناك لزيادة الكمية التي ستطرح في السوق، ثم يتم الشحن والتوزيع، ولا يوجد هناك انكماش في الطلب، أو "تدهور في الأسعار"، كما يحدث بين الحين والآخر للذهب والنفط، فزبون الكوكايين مستعد لبيع ذمته وولده في سبيل الحصول على نصيبه من المسحوق.
وأشهر كارتيل مخدرات في التاريخ هو ذاك الذي كان يديره الكولومبي بابلو إسكوبار في منطقة مديين في كولومبيا، وكان 96 في المئة من احتياجات السوق الأمريكية، و90 في المئة من احتياجات بقية دول العالم من الكوكايين يتم توفيرها من هذا الكارتيل.
كان العائد من تجارة المخدرات في عام 2003 يربو على 322 مليار دولار، وتقول تقارير وكالة محاربة المخدرات الأمريكية إن إسكوبار جنى 1.3 مليار دولار في شهر واحد، وعندما لقي مصرعه رميا بالرصاص في معركة مع الشرطة الكولومبية، في عام 1993، كان قد ترك ثروة تقدر بـ30 مليار دولار.
ولم يكن ذلك سيتأتى ما لم يكن إسكوبار يدير منظمته بكفاءة شركات مثل "أبل" و"مايكروسوفت" ذاتها، بحيث تكون لها إدارة مركزية، ومكاتب إقليمية ودولية، وبناء هرمي قوامه مهنيون احترافيون، يكفل سلاسة عمليات الاتجار في المخدرات.
وكارتيلات تجارة المخدرات العاملة في الأمريكيتين وأوروبا وبقية القارات صارت ذات كفاءة عالية في مجال تخصصها الذي يشمل غسل الأموال، كي يصعب رصد تدفقاتها والتوصل من ثم إلى مصادرها.
لدى تلك الكارتيلات أساطيل من الطائرة ذات المحرك الواحد، والسفن مختلفة الأحجام بل والغواصات، ولديها طواقم هندسية تحفر أنفاقا بطول عشرات الكيلومترات لاختراق الحدود الأمريكية انطلاقا من
المكسيك.
ولكن الأخطر من كل ذلك، أن تجار المخدرات الكبار يملكون سلسلة من البنوك وقادرون على شراء ذمم أعتى البنوك، وخلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 كانت البنوك الأمريكية عاجزة عن إقراض العملاء، وكانت كارتيلات المخدرات وحدها التي تملك من السيولة ما يكفي لتزييت عجلات البنوك الكبرى.
يقول تقرير لصندوق النقد الدولي، إن قيمة السندات والأسهم الملوثة بالمخدرات في الولايات المتحدة وأوربا كانت تزيد على 1.5 تريليون دولار في عام 2009، وإذا كان الجرام الواحد من هذا السم الأبيض يباع بـ 300 دولار، فلك أن تحسب كم يجني تاجر المخدرات من بيع طن كامل.
علما بأن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن المطروح في السوق من الكوكايين يناهز الـ1160 طنا، وأن الطن يساوي ألف كيلوغرام، وأن الكيلوغرام يتألف من ألف غرام.
كيف تأخذ المليارات من عائدات تجارة المخدرات دورتها لتعود بالنفع التام على بائعها والموت الزؤام لمن يشتريها ويستهلكها؟
بالغسيل طبعا، ولكي تغسل مبالغ بتلك الضخامة، لابد أن تستعين بالبنوك الكبيرة في أوروبا والولايات المتحدة، وتفوز بتراخيص لإنشاء شركات تكون واجهة تستر لتلك التجارة.
في عام 2011، كشفت سلطات مكافحة تجارة المخدرات الأمريكية، أن بنكا واحدا يعمل في أراضيها، قام بتمرير وتدوير 378 مليار دولار ملوثة و"مسطولة" عبر قنواته، رغم أنها وصلت عبر صرافة بويبلا المكسيكي المتخصصة في حشر النقود المشبوهة، في قنوات التصريف المصرفية الدولية ليتم غسلها وإضفاء البراءة عليها.
أكبر بنك في أوروبا ويتخذ من لندن مقرا له، اعترف بغسل مئات الملايين من الدولارات التي كانت تأتيه من كارتيل التشابو غوزمن المكسيكي، ولما انكشف أمر ضلوعه في تجارة الغسيل القذرة هذه، اكتفت السلطات الأمريكية بتغريمة 1.2 مليار دولار.
في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2009، قال المدعي العام الأمريكي انتونيو ماريا كوستا صراحة، إن عائد تجارة المخدرات هي المصدر الرئيس للسيولة للبنوك الأمريكية، وإن معاقبة البنوك التي تغسل الأموال القذرة بالإغلاق سيؤدي إلى خلخلة النظام المصرفي وربما انهياره.
في عام 2013، أصدر الصحفي الإيطالي روبرتو سافيانو كتاب "زيرو زيرو زيرو"، الذي يعد أهم وأخطر تقرير عن تجارة المخدرات في العالم، ولاحظ سافيانو أن سوق المخدرات الكبرى هي الأمريكية تليها الأوربية ثم الأسترالية، وبعد اعتناق روسيا لمبادئ الاقتصاد الحر، صارت سوقا كبيرا للكوكايين، ورفست استراليا الى المركز الرابع.
ما هو الشاهد في كل ما جاء أعلاه؟
الشاهد هو أن الرأسمالية الغربية، التي قامت حينا على استغلال دول شعوب الدول الفقيرة، باتت اليوم رأسمالية كوكايين، وجانب من النقود التي تدخل جيبي وجيبك ملوثة أصلا، ولكنها أخذت دورات في النظام المصرفي العالمي المترابط.
والشاهد هو أيضا، أنه لا الولايات المتحدة، ولا الدول الأوروبية التي تتستر حكوماتها بشكل غير مباشر على تجارة المخدرات، تملك أي حق في وعظ أي بلد بشأن كيف تكون الحوكمة الراشدة المنضبطة أخلاقيا.