شهدت الساحة
المصرية زخما شديدا ما زال مستمرا؛ منذ أن أعلنت وزيرة
الصحة عن قرارها بشأن ترديد النشيد الوطني وقسم الطبيب يوميا في المستشفيات والمنشآت الصحية بمصر، بهدف زيادة الانتماء عند
الأطباء وتحسين بيئة العمل ورفع كفاءة الخدمة الطبية لصالح المريض. وارتفعت الأصوات الوطنية على جميع المستويات مستنكرة هذه الأفكار الشكلية والتي تدخل في إطار الوطنية الزائفة، كما انتشرت التعليقات الساخرة، لتكون المحصلة هي الامتهان لقيمة النشيد الوطني الذي يُجله الجميع ويقفون تحية له وتكريما.
وشاء الله تعالى أن يشاهد العالم أجمع - في نفس اليوم - أطباء مستشفى الحسين الجامعي في قلب القاهرة؛ وقد هبّوا جميعا يحملون المرضى بعيدا عن الحريق والدخان الخانق، حيث احترق المبنى وارتفعت السنة اللهب والدخان لافتة الأنظار إلى الكارثة، دون أن يستمع أحد إلى صفارات إنذار الحريق ودون وجود منظومة الإطفاء الذاتي بالمبنى الحديث الإنشاء. وكان لهذا دلالات هامة، منها أن الأطباء يتصرفون بتلقائية مهنية وإنسانية ذاتية وليسوا في حاجة إلى ترديد نشيد أو إلقاء قسم.. ومنها دلالة خطيرة وكارثية على انعدام وسائل الحماية المدنية من الحريق وانعدام مقومات السلامة في المنشآت الصحية، في حين تنادى الوزيرة بإطلاق النشيد الوطني عبر تركيب شبكات الإذاعات الداخلية بالمستشفيات كأولوية تسبق تركيب صفارات إنذار الحريق.
وفي حين أن منظومة الصحة المصرية قاصرة ويعاني الجميع من سوء الخدمة، إلا أن قرار الوزيرة بإذاعة قسم الطبيب يوميا كشف عن تشوهات في أسلوب التفكير والعقلية التي تدير المشهد الصحي، ووضع الأطباء أمام لوغاريتمات مُجهدة؛ فالأطباء يوقنون بأهمية تلبية القسم الذي ينص على: "أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال باذلًا وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عورتهم، وأكتم سرهم، وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلًا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو، وأن أثابر على طلب العلم، أسخره لنفع الإنسان لا لأذاه، وأن أوقر من علمني، وأعلم من يصغرني، وأكون أخا لكل زميل في المهنة الطبية، متعاونين على البر والتقوى، وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقية مما يشينها تجاه الله ورسوله والمؤمنين، والله على ما أقول شهيد"... والطبيب هنا يبذل أقصى جهده، ولكن وسط بيئة تنقصها الإمكانيات من أبنية وأسرة وتجهيزات ومسلتزمات طبية وادوية ونظم إدارية وغيرها، وجميعها من مهام الدولة ومن واجبات وزارة الصحة، وكأن الوزيرة تريد من الأطباء الشعور اليومى بالعجز نحو تلبية قسم الطبيب، والإحساس بالتوتر النفسي والذهني بين دافع الرغبة وعجز القدرة...
كما ينص قسم الطبيب على ضرورة أن يثابر الأطباء على طلب العلم لنفع المرضى، وهذه حقيقة معروفة؛ لأن مهنة الطب لا بد لها من دراسة مستمرة وتدريب يومي طوال الحياة، تبدأ بأن يطلب الطبيب تسجيل الدراسات العليا في التخصصات المختلفة. وهذا أمر أصبح من الصعوبة بمكان بسبب تعنت وزارة الصحة في إتاحة الفرصة للأطباء لاستكمال الدراسة والتدريب مما أثار غضب الوسط الطبي تم التعبير عنه حراك جماعي، كان منه مظاهرات الأطباء في شهر آذار/ مارس الماضي أمام مبنى وزارة الصحة، مطالبين بإتاحة الفرصة لهم لدراسات العليا التخصصية في الجامعات. والأغرب هو أن وزارة الصحة كانت قد أعلنت عن نظام جديد للدراسات العليا المهنية تحت اسم "شهادة البورد المصري"، وتقدم آلاف الأطباء لفرصة ظنوها متاحة لتكون الصدمة هي أن الأماكن محدودة والرسوم باهظة بالنسبة لأي طبيب حديث التخرج. وهنا أيضا وقع الأطباء ضحية الألم النفسي والمعنوي بين قسم الطبيب الذي يحترمونة ويريدون تطبيقه، وبين واقع الفشل الحكومي في تلبية احتياجاتهم العلمية والتدريبية.
وفى اجتماع لها مع لجنة الشؤون الصحية في البرلمان، أعلنت وزيرة الصحة أن قرارها بإذاعة النشيد الوطني وقسم الطبيب لم يصدر رسميا، وأن التطبيق اختياري وغير ملزم؛ في ما اعتبره النواب نوعا من التراجع المطلوب.
وفي نفس الجلسة بالبرلمان جاءت كارثة أخرى، حيث صرحت الوزيرة بأن توجيهات السيسي لها تشمل ضرورة أن تنتهي قوائم انتظار المرضى بالمستشفيات فورا. وهنا أقسمت معالي الوزيرة أمام الجميع (صيغة القسم كانت صادمة) بأنها لن ترحم طبيبا تسبب بتقصيره في زيادة قوائم انتظار المرضى. جاء "قسم الوزيرة" د. هالة زايد أمام لجنة البرلمان ليكشف أنها لا تعلم الكثير عن واقع الخدمة الصحية في مصر وعن أسباب مشكلة قوائم انتظار المرضى.
ومن المثير للدهشة أن الدكتور أحمد محيي القاصد، مساعد وزير الصحة ورئيس لجنة متابعة خطة القضاء على قوائم انتظار العمليات بالمستشفيات، كان قد أعلن قبلها بأسبوعين أن هناك ستة أسباب لوجود قوائم الانتظار خلال الفترة الماضية. وأضاف: "القاصد" مساعد وزير الصحة، في تصريحات صحفية يوم 3 تموز/ يوليو2018، أن أسباب القوائم تتمثل في: 1) وجود نقص في بعض المستلزمات والأدوية على فترات زمنية متباعدة، 2) وسوء توزيع المرضى على بعض المستشفيات دون غيرها، 3) ونقص القوى البشرية في بعض المستشفيات، مثل أطباء التخدير والرعاية المركزة والتمريض، 4) وقلة عدد بعض غرف العمليات وأسرة الرعاية المركزة وتناسبها مع النسب العالمية، 5) وعدم وجود نظام مميكن لقوائم الانتظار، 6) بالإضافة إلى ضعف التعاون والتنسيق بين المستشفيات الجامعية ووزارة الصحة والسكان في هذا الصدد". والطريف أن جميع هذه الأسباب الستة تدخل في صميم اختصاصات الوزارة وليس للأطباء أي دور فيها.
ومن المؤسف أن يكون هذا هو أسلوب إدارة الأزمات الصحية بعيدا عن الواقع، حيث يتحول المسؤول إلى مجرد " ظاهرة صوتية" تُقسم وتهدد وتتوعد، في حين أن المريض يتألم وصحته تتدهور، والفريق الطبي يعاني ويعيش حالة من العجز وعدم القدره على تلبية متطلبات النشيد الوطني ومهامه لتنفيذ قسم الطبيب، والتي فشلت الوزارة في تحقيقها وسط ضجيج الشعارات والتصريحات والتهديات.