ندّد مؤلف كتاب "عظماء القرن العشرين"، الصادر عن وزارة
الثقافة السورية منذ شهور، والذي ما يزال يثير البهجة في مجالس "الأنس في فيينا" على صفحات التواصل الاجتماعي؛ بتزوير غلاف كتابه. عندما رأيت صورة غلاف الكتاب المزيف، المحوّر، المختلق، "المفبرك"، لعب ميكي ماوس في عبّي، وقلت في نفسي الأمّارة بالسوء:
وأيم الحق، والذي نفسي بيده، والذي رفع السماء بلا عمد، إن كان المؤلف قد وجد في المطرب علي الديك والمحلل السياسي شريف شحادة عظماء للقرن العشرين، فلا رجعت أم عمرو ولا رجع الحمار. وكنت أحسب المؤلف ذكيا، ومن أذكى الشخصيات العلوية المعاصرة، وهو كذلك، فما الذي دفعه لتأليف كتاب مثل هذا؟ ومن عجب أن دولة الأسد السورية أزالت وصف الدين من جداول البطاقة الشخصية، تأكيدا على علمانيتها الفاضلة، لكنها تصرفت دوماً على أسس طائفية، وكانت هذه الدولة الماتريسية، (الماتريس هو المصفوفة في الرياضيات) قد عملت فوتوشوب لأسماء الأمكنة صفا صفاً، فسمّت وادي النصارى؛ وادي النضارة، ثم عادت بعد الثورة إلى التسمية الأصلية، ليس مثل الطبيب الذي مثّل دوره أسعد فضة في مسلسل "الطبيبة"، والذي سأل مريضاً في مشفى بألفاظ راسخة، كأنه ضابط أخطأ موقعه وصار طبيباً، يصدر بياناً للقوات المسلحة: هل تحركتْ أمعاؤك؟ كناية عن ريح البطن.
إذا لم تتحرك أمعاء المريض بعد عملية جراحية فيها، يموت ويقضي نَحبه.. نجاته ليس في الشهيق، ولا في الزفير، وإنما في "الريح".
المصريون أبطال حاذقون في اشتقاق التسميات والأوصاف، في فيلم "الكيف" مثلاً، يُطلق على جمال أبو العزم (محمود عبد العزيز) وصف المزجنجي، في فيلم 131 أشغال، يتداول شحتة الجمال (نور الشريف) وصحبه؛ لقب "زغللة" مثل لقب الرفيق في الأحزاب الاشتراكية الميمونة. والبهججة (اسم المؤلف هو بهجت سليمان) قياسا على: الهلهلة، والدّندَنةُ، وهي أن تَسمَعَ منَ الرّجُل نَغْمةً ولا تَفهَم ما يقول. وقيل الدّندَنةُ الكَلامُ الخَفِيّ، والجلجلة التي مشى المسيح في دربها، واقتفى الشعب السوري أثره فمضى حقبا.
أما سبب عدّي واحتسابي (وأجري وثوابي على الله) سفير
سوريا المطرود من الأردن؛ مثقفاً، مثل أندريه مالرو وعلي عزت بيكوفيتش، فلأنه أصدر كتاباً تأسّى به بكتب المسلمين الأوائل، في التراجم والأعلام.. والمسلمون هم الذين ابتدعوا فنّ السيرة الذاتية، وسمّوه علم التراجم، ولهم فيها موسوعات وتصانيف، لكن المسلم لا يكتب سيرته بنفسه، وفي ذلك كلام ليس محله هنا، وتأسيس "البهججة" قناة الدنيا المقنّعة بصباغ من ألوان الاستقلال ودهان الليبرالية... وأطلق مصنفو موسوعة الأعلام اسماً يليق بعنوان في صحيفة أدبية، هو "رواية اسمها سوريا".. وفي التسمية مجانبة للعدل.. وحشدوا له أعلاماً، دعوهم إلى صفحات الكتاب للاحتفال بحافظ الأسد بطلاً للكتاب، وخلقوا في سوريا خلقاً آخر غير الذي نعرف، ثم جاء الزمان الذي خلقوا سوريا نفسها خلقا آخر.
ثم تبيّن لي بعد الضلال أنّ عظماء القرن العشرين هم 14 عظيماً من مزارع الاشتراكية للدواجن والأسماك، بينهم طغاة أشاوس شووا شعوبهم على النار، مثل ماوتسي تونغ، الذي قضى على العصافير في الصين لأنها تأكل قمح الشعب، وكاسترو الذي جعل كوبا متحفاً للمخابرات والسيارات القديمة. العظماء ينتمون إلى أصقاع الأرض، لكل بقعة من بقاع الأرض عظيم، إلا سوريا فلها عظيمان، هما: الأسد الأب من القرن العشرين، وابنه بشار الأسد الذي كان عريس كتاب عظماء القرن العشرين، ولم يتولَ المسؤولية (راجع شاهد مشفش حاجة)، فهما من سوريا التي لم تنجب في قرن سوى هذين "القرنين".. والقرنان نَعْتُ سَوْءٍ للرّجُل. والمأمول أنّ العظيم الثالث، الحفيد بطل الرياضيات سيكون الثالث. وليس في الكتاب سوى القادة، فهو طاهر مطهر من العلماء. كما أن عدد العظماء 14، وليس مثل كتاب مايكل هارت، الذي بلغ عدد عظمائه 100، وهو رقم تام.
عندما رأيت صورة الغلاف المزيّف، المنكّر بآلات مشغل الصور وحيَله، بحثت عن صورة فنان سوري، اختارته مراكز انتخاب النجوم نجماً للعام في سوريا قبل سنوات، كما اختارت فنان سوريا ممثلا في مسلسل اسمه صبايا نجمة للإغراء والإثارة، بعد قيامها بعملية فوتوشوب وتجميل لوجهها وأعضاء أخرى، فلم أجده بين العظماء. وكنت وقفت يوماً أمام لوحة كبيرة عملاقة انتشرت في المدن السورية وطرقاتها، عليها صورة هذا الفنان النجم، وهو التاسع في مجموعة درب التبانة، والعَلَم السوري يخفق مثل حمامة طائرة في السحب فوق رأسه، وقد
كتب بجانب العلم الخفّاق: حماة الديار عليكم سلام، أبت أن تذل النفوس الكرام.
فأنشدت مندهشاً قول الخنساء:
قذى بعينيكِ أم بالعينِ عوَّارُ ... أم ذرَّفتْ إذ خلتْ منْ أهلها الدَّارُ
هل خلتْ سوريا من الأبطال والعظماء، حتى يصير ممثل رمزاً للوطنية السورية؟ ثم بكيت أكثر من الخنساء من غير دموع.
عملت آلات الإعلام العربية على أيقنة الفنان المطرب، والفنان الممثل، والفنان الرياضي، لأمور عدة، فالفنان الممثل نجم دائم الحضور، سهل الاستخدام، تعمل له قص ولصق.. "ريسايكل أوديليت" بسهولة. هو قليل الفكر، متلوّن، منفصيلة الوزغ.. وهي أكثر الحيوانات سماً. الوزغ هو الذي كان ينفخ في نار إبراهيم عليه السلام. ووجدت الوزغة (في مقابلة معه على إحدى الفضائيات) ينطق بالحكمة، ويقول إنه يخاف الرعد ويشتمه؛ لأنه يعكر عليه صفو خلوته، فكتب الصديق ماهر شرف الدين مغرداً: يغضب من الرعد وهو آية من آيات الله، ولا يغضب من قصف الشعب بالبراميل.
زارني صديقي الشاب نوري، ووجدني أكتب هذا المقال عن الكتاب، وأبحث عن مقاطع منه أسرّي بها عن نفسي وعن القارئ، ورأى صورة الغلاف المزيّف، وابتسم، وقال: ينقص هذه الثلة من العظماء؛ عظيم كردي. فسألت وبراءة الأطفال في عيني: من؟
قال: قلدار خليل.
ونطق اسم آلدار، بالقاف، مع أني أعرف أنه يوالي جماعة المذكور. فهل يسخر أم يقول صدقاً؟
حلّت على نوري البركة الإلهية، وهو ينظر إلى عنقود الموز بجواري، وقال: خال، أتحب الموز؟
قلت: الموز لذيذ.
قال: القرود تحب الموز.
فوجدت مزحته ثقيلة، وهجاءه لا يردّ، وكدت أموت كمداً وغيظا، وحاولت أن أردّ عليه فلم أحِر جواباً، وتذكرت برنارد شو حين قال له كاتب مغرور:
- أنا أفضل منك، فإنك تكتب بحثاً عن المال، وأنا أكتب بحثاً عن الشرف..
فقال له برنارد شو على الفور:
- صدقت، كل منا يبحث عما ينقصه.
وأعيتني الحيلة، لست سريع البديهة مثل برنارد شو. لقد نال مني الغلام.
صببت له الشاي، ووضعت ملعقتين من السكر في الكوب، فأضاف ملعقة ثالثة، وشرب. فحانت فرصتي، وجاء دوري في الانتقام:
قلت: أتحبُ السكر يا سبعي؟
قال: كثيراً.
قلت: الذباب يحبُّ السكر.
وقف نوري، وضع يده على بطنه، وقصد "وزارة الخارجية"، بعد أن أتى على عثكول الموز (الذي تحبه القرود). كانت أمعاؤه قد تحركت؛ حركةً تصحيحية مجيدة ومباركة. أمّا الكتاب فقد اتخذ مكانه ومنصبه الشريف بين أمهات الكتب وخالاتها في مكتبتي، إلى جوار فهرست ابن النديم، وأصل الأنواع لتشارلز داروين... والمستطرف من كل أمر مستظرف.