قد لا نعثر، على الأقل فيما يروج بيننا من أدبيات، على تحديد واحد موحد، جامع مانع، لما هو "
الإرهاب" أو الحركات أو التنظيمات أو المجموعات "الإرهابية"، إذ لم تخضع العبارات إياها لتأصيل قانوني بالتشريعات الوطنية أو لتقعيد محدد بالمواثيق الدولية، بل بقيت مادة تتجاذبها الأيديولوجيات، واصطلاحات تتقاذفها المعالجات الإعلامية، دون تدقيق كبير في مضمونها أو في مجالها أو في حدودها السيميائية.
وعلى الرغم من أن الكلمة (الإرهاب)، لا تزال لحد الساعة هلامية ومطاطة (ولربما أريد لها أن تكون وتبقى كذلك في المجال التداولي العام)، فإن معظم الباحثين يسلمون بأن أي عمل، كي يصنف كعمل إرهابي، لا بد أن يتضمن عنصر الترصد.. أن يكون البعد الأيديولوجي حافزه، وأن يطال أفرادا وجماعات لا يد لها فيما يجري أو ما يتم الترتيب له، وأن يكون الغرض منه خلق حالة من الهلع والفزع والفوضى، للضغط على هذه الدولة أو تلك، لهذه الغاية "المشروعة" أو تلك.
ومع أن التنظيمات "الإرهابية" التي تتكئ على هذه الخلفية؛ تراهن بالأساس على الفعل بالأرض، وتتطلع إلى أن يكون ذات الفعل ماديا وملموسا، من خلال استهداف البشر أو المنشآت العمومية الحساسة، فإنها تراهن وبالقدر ذاته ربما، على توظيف المستجدات التكنولوجية (من إعلام تقليدي معروف وشبكات الكترونية فائقة الدقة)، إذا لم يكن لترويع وشل حركة "الأعداء"، فعلى الأقل لإحراج الحكومات أمام شعوبها، وتبيان ضعف منظومتها في الأمن والاستخبار، وكذا قدرتها على المواجهة والرد.
وإذا كان من المتعذر حقا حصر عدد الحركات "الإرهابية" (أو لنقل الحركات المتطرفة تجنبا للتأويل أو لسوء الفهم) بحكم سعة طيفها، والتباين الذي يطال خلفياتها ومرجعياتها، فإنه من المتعذر أيضا تحديد مدى وحجم حضورها على شبكة الإنترنت، على شكل مواقع أو مدونات أو بوابات أو حسابات على مواقع الشبكات الاجتماعية أو ما سواها.
بيد أن التقديرات التقريبية تشير إلى أن لأكثر من نصف الحركات التي تصنفها الولايات المتحدة كـ"حركات إرهابية"، موطئ قدم بشبكة الإنترنت، إذا لم يكن كمواقع رسمية، وعناوين الكترونية ثابتة بالإمكان الولوج إليها. فعلى شكل حسابات على الشبكات الاجتماعية ذات الانتشار الجماهيري الواسع، كفيسبوك وتويتير ويوتيوب، وغيرها.
التقديرات هنا لا تضع تمييزا محددا بين حركة وأخرى، أو بين الناشط ضمنها بالفعل على الأرض، وبين الناشط بالخطاب الإعلامي فقط، بل تصنفها مجتمعة ضمن خانة "الحركات الإرهابية"، بما فيها "المواقع الجهادية" التي تثوي خلفها جماعات ما تسميه الإدارة الأمريكية بـ"الإسلام السياسي الراديكالي".
وعلى هذا الأساس، فإن لجوء هذه الجماعات للشبكة إنما مدعاته الأولى الترويج لمنظوماتها العقدية والأيديولوجية، أو الاتكاء عليها لترويج رسائل الوعيد والتهديد، أو بامتداد لذلك، لغايات التعبئة النفسية والشحن العاطفي الذي يراهن على استقطاب متعاطفين أو اجتذاب أعضاء جدد متحمسين.
لقد قلنا، في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وبعد ضرب أفغانستان واحتلال العراق بجريرة ذات الأحداث، بأن "الطابع العسكري للإرهاب الجديد" (إرهاب الشبكات) إنما يتم باستخدام الإنترنت في التنقيب على المعلومات، والحصول على التمويلات والتبرعات، وعملية التجنيد والحشد، وكذلك تحقيق الترابط التنظيمي بين الجماعات وبداخلها، وتبادل المعلومات والأفكار، والمقترحات والمعطيات الميدانية، حول كيفية إصابة الأهداف واختراقها، وكيفية صنع المتفجرات، وكيفية التنسيق والتخطيط، وكيفية تدمير مواقع الإنترنت المعادية، واختراق المؤسسات الحساسة، وتعطيل الخدمات الحكومية الالكترونية والتعرض لبنوك وقواعد معطيات "الأعداء"، وهكذا.
بالتالي، فنحن هنا إنما بإزاء منظومة حرب افتراضية مكتملة الأوصاف، لا تكتفي فقط بأدوات الفعل التقليدية أو النظامية، بل تلجأ لأساليب جديدة، لم يكن لذات الحركات أن تركب ناصيتها لولا سقوط شبكة الإنترنت في المشاع العام:
- إنها تلجأ إليها كأداة حرب نفسية لإشاعة الرعب وتعميمه، عبر مزج دقيق ومدروس بين الخبر والإشاعة، بين المعلومة الصحيحة والمعلومة الموجهة للتضليل. بالتالي، فبين الوعيد والتهديد بالاستهداف، تنجح هذه الحركات وإلى حد بعيد، في إفزاع خصومها وتركهم يعيشون تحت ضغط تنفيذ تهديد بالاستهداف، لا يدري هؤلاء (الخصوم أقصد) متى سيتم وكيف سيتم وأين سيتم بالتحديد.
لا ينحصر الأمر عند هذا الحد، بل يذهب بهذه الجماعات لدرجة توظيف الصورة (بالإعلام كما بالشبكات الرقمية) لموسطة قسوة تنكيلهم بالرهائن والمختطفين، أو تلغيمهم للسيارات أو تصوير تفجير "انتحارييهم" وسط التجمعات الشعبية بالأسواق أو بالمدارس أو بالمرافق العامة.
- وتلجأ إليها كوسيلة لاستقطاب عناصر جديدة لتعزيز صفوفها، بالارتكاز على مرجعية "ثقافة الجهاد والاستشهاد"، لا سيما عندما تروج هذه الحركات بمواقعها على الإنترنت، لوصايا منفذي العمليات و"لسمو مقامهم ومرتبتهم عند الله"، ولتضحياتهم في سبيل "الرسالة" التي تتبناها الحركات إياها، أو تدفع بها بوجه خصومها.
في المقابل، فإن هذه الحركات تتعامل مع الشبكات الرقمية، والإنترنت تحديدا، باعتبارها كنزا من المعلومات كبير، إذ يسهل عليها (دونما الحاجة إلى نشر الجواسيس) تحديد المواقع المراد استهدافها، من نظم اتصالات وخرائط جغرافيا المرافق العمومية، ومكان تواجد الأجهزة الأمنية الحساسة، ومواقع الموانئ والمطارات وشبكات الماء والكهرباء والنظام البنكي والقواعد العسكرية... وهكذا. ولعل بوابة "جوجل إرث" خير وسيط في ذلك.
إلى جانب كل ذلك، فالشبكة تمنح هذه التنظيمات سبل الاتصال بعناصرها داخل البلد الواحد، أو بمختلف مناطق العالم حيث هم موزعون، لا بل وتساعدها في التنسيق فيما بينهم لإيصال المال أو السلاح أو تبليغ الأوامر والتوجيهات.
إن طبيعة الشبكات الرقمية، وفي مقدمتها شبكة الإنترنت، لم تمنح التنظيمات "الإرهابية" سبل التنسيق فيما بين مكوناتها، وإمكانات الترويج لإيديولوجياتها أو لعملياتها على الأرض فحسب، بل فسحت لها في المجال أيضا للانتشار والتمدد بداخل هذه الفضاء الافتراضي الذي يشتغل الكل من بين ظهرانيه، مع الكل ضد الكل.