عندما التقيت بمسؤول عراقي في القاهرة، بعد سقوط نظام صدام حسين، وجدتها فرصة، لأسأله حول ما لم أحط به خُبرا؟
كان الرجل قد بذل جهداً عظيماً على مدى شهور عدة، وبشكل يومي تقريبا، من أجل اقناعي بزيارة العراق، وكنت قد انتهزت غزو الكويت، لأصب جام غضبي على الرئيس العراقي، وعرضت كثيراً من الكتب التي تكشف ملف حقوق الانسان في عهده. وقبل هذا كان ممنوعا الاقتراب منه ولو بشطر كلمة، فقد كان قريباً من نظام مبارك، وكانت لديه حصانة خاصة من النقد، لم يحظ بها سوى حكام آل سعود!
بيد أن موقفي من الرئيس العراقي تغير عندما أصبح هدفاً للولايات المتحدة الأمريكية، وكان لافتاً هذا الإلحاح بالدعوة لزيارة بغداد من شخص دبلوماسي هو موظف في النهاية مهما علت درجته الوظيفية، فما الذي يدفعه لهذه المقامرة بهذه الدعوة (حيث يمكن أن يخسر على إثرها موقعه الوظيفي) لكاتب ليس مأمون الرضى أو الغضب؟ وفي مثل هذه الأمور فإن من يدفع الثمن هو من رشح.. وقد تكلمت عن هذه الرحلة باستفاضة في كتابي "شر البلية"، وليس مهما الآن تكرار ما كتبت، فالذي يعنيني أنني لم أتقاض شيئاً من المال العراقي، ومن تقاضوا وردت أسماؤهم على سبيل الحصر في قوائم النفط مقابل الغذاء، وهم كل من كانوا معي في هذه الرحلة تقريباً. للحقيقة، أن أحداً لم يعرض علي شيئا لأنال شرف الرفض!
الأمر الثاني الذي ناقشه مع الدبلوماسي بعد أن سقطت دولتهم، والذي يعنينا في القضية التي نحن بصددها، هو حرص نظام صدام حسين على شراء الولاءات السياسية، رغم عدالة القضية، وكان وقتها في مواجهة مع الأمريكيين. ورغم أن شعبيته في
مصر لم تتوافر لأي حاكم بعد عبد الناصر، وإلى حد أن كثيرين من المصريين الذين عادوا من بغداد، معززين مكرمين، أطلقوا اسمه على أبنائهم، تقديراً لشخصه واعترافاً بجميله عليهم. فمدخراتهم من العمل هناك مكنتهم من بناء بيوتهم وزواجهم، وكان المصريون هناك يعاملون باحترام وبأوامر من الرئيس نفسه.
رأيي الذي قلته للدبلوماسي السابق، أن عملية شراء الولاءات أخذت من رصيد النظام العراقي ولم تضف اليه، على الأقل على مستوى النخبة، ليتبين لي أن الأمر كان محكوماً لدى القيادة العراقية السابقة، بفلسفة عميقة على بساطتها!
إن نظام صدام حسين يدرك شعبيته في مصر جيداً، لكنه يدرك أيضاً أن هذه الشعبية لا تكفي لاتخاذ موقف سريع، عندما يكون المطلوب الدعوة إلى مظاهرة، أو إلى حشد جماهيري، وهو ما كان يعني ضرورة أن تكون معه شخصيات بارزة في الوسط السياسي، وتستطيع أن تحشد للتظاهر، كما حدث عندما أُطلق صاروخ أمريكي على بغداد في عهد "بوش الأب"، حيث كان هذا في موعد آذان المغرب في شهر رمضان، ومع ذلك خرجت المظاهرات السريعة من المدينة الجامعية بجامعة القاهرة في التو واللحظة!
ورغم أن هذه المظاهرات كان بفعل طلابي صرف، إلا أن القاعدة يبقى لها ما يبررها وأن النخبة مطلوبة للإنجاز، وكان لا بد لهذه النخبة أن تجد الدافع للمغامرة بالدعوة، والحشد، والتظاهر، وليتم التحكم في أدائها من مركز القرار في بغداد!
وعقب بيان وزير الدفاع بالانقلاب العسكري في مصر، لم تكن قضية رفضه يمكن أن تهزم من قلة، فالاعتصام في "رابعة" وفي "النهضة"، جمع كثيرين من غير أبناء التيار الإسلامي، بل ومن البسطاء. وعندما وقعت المذبحة، فإن المظاهرات التي خرجت في كل محافظات مصر، لم تشهد البلاد مثلها ولو في ثورة يناير، لدرجة أن محافظات كاملة، كانت خارج السيطرة الأمنية، وبشكل كامل، قبل أن تصدر للمتظاهرين التعليمات بالعودة إلى بيوتهم!
واستمر الحراك الثوري بشكل مدهش، لكن تكمن المشكلة في أن العقلية التي أدارت المشهد تفتقد للخيال، فكانت فكرتها عن تنوع الصورة تستدعي أن يكون هناك مسيحي، وامرأة غير محجبة، ولا بد من اختيارات ضعيفة يمكن السيطرة عليها. ولم يكن القوم يفتقدون لهذه الشخصية، فالدكتور رفيق حبيب، ابن رئيس الطائفة الإنجيلية الراحل، هو نائب رئيس حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسي للجماعة)، لكنه مفكر أكثر منه سياسي، والمطلوب قامات متواضعة، حتى على مستوى الاختيار النسائي، رغم وجود شخصيات نسائية غير محجبة في الداخل والخارج ضد الانقلاب، ومنهن من يعملن في وظائف مرموقة، ولسنا بالتالي بحاجة إلى من يحل لهن أزمة البحث عن وظيفة. لكن دائماً فإن الفكرة الحاكمة هي أن أصحاب القامات المنخفضة يمكن السيطرة عليهم، وهذا ليس صحيحاً؛ لأنه بمرور الوقت يتحولون إلى أداة ابتزاز بالنظر إلى الندرة!
ما المانع من وجود عشرة نساء في المشهد، ومثلهم من المسيحيين، ما دامت الصورة لا تكتمل إلا بمسيحي وامرأة غير محجبة؟!
المانع هي فكرة السيطرة عليهم وعدم ضمان الخلاف، عندما تكون العلاقة ليست مرتبطة باتفاق في جزئية والخلاف في كثير من النقاط، ومن هنا يكون الاختيار كما لو كانت هذه الشخصيات المختارة سيتم ضمها للتنظيم، ولهذا كان اختيار الحكم الإخواني، وفي عموم المواقع، لشخصيات تنتمي لدولة الأجهزة الأمنية، وتم الابتعاد عن الذين لهم قدم صدق في معارضة مبارك ممن شاركوا في
الثورة، باعتبار أنهم لا يسري عليهم مبدأ المؤلفة قلوبهم!
عندما وقع الانقلاب كان "رامي جان"، عاطلا بلا وظيفة، وقد تم تقديمه على أنه كاتب صحفي، وعندما سألت عن علاقته بالصحافة علمت أنها لم تتجاوز التدريب في جريدة "صوت الأمة". وهو من حيث الانتماء الديني من أقلية الأقلية، فهو لا ينتمي للكنيسة الأرثوذكسية، كما حاول أن يوحي، وعلى أساس أنه في هجومه على البابا تواضروس، إنما يعبر عن شجاعة أسعدت البعض، كما أنه لم يكن له حضور على أي مستوي، بالمفتشر المفيد: ليس لديه ما يخسره!
وفي اليوم التالي للانقلاب اقترب مني زميل وقال لي، وهو يتحسس كلماته، أنه يشكل حركة تحمل اسم صحفيين ضد الانقلاب، وسألني ان كان يمكن أن أوقع على بيانها، وقد وقعت على الفور، وبعد يومين أو ثلاثة أيام فوجئت باتصالات من عشرات من الزملاء، يطلبون مني ضمهم للحركة، لاعتقادهم أنني مؤسسها، فلما سألتهم كيف عرفوا بها، قالوا إن شخصياً مسيحياً صعد على "منصة رابعة" وقرأ بيان "صحفيون ضد الانقلاب" وكان اسمي أول الأسماء التي تمت تلاوتها، على نحو ظنوا معه أنني المؤسس!
وكان هذا كافياً لتوضيح المعنى، فاسمي في المقدمة لأن خصومتي للإخوان واضحة، سواء قبل الثورة أو بعدها، ثم إن صعود مسيحي للمنصة مهم لاستكمال الشكل، وهو للضرورة التي كان ينبغي أن تقدر بقدرها، لكن تكمن المشكلة في إفساح المجال لـ"رامي" ليتخطى الرقاب، دون أن يقدم مبرراً معقولاً لموقفه هذا، فهو لم يكن ينتمي للمعارضة في عهد مبارك، ولا ينتمي للثورة، كما أنه لم يعرف عنه أنه صاحب موقف أو رؤية سياسية يمكن أن تبرر هذه الحفاوة، وتفسر خطوته هذه، ربما تكمن قيمته عند من قدموه في أنه يفتقد لأي قيمة سياسية!
ووجد هو أن بضاعته لا تؤهله لشيء، فدغدغ المشاعر الجياشة للمسلمين والمسلمات بإمكانية دخوله في الإسلام، فهو عند موعد صلاة الفجر يكتب "بوست" يدعو فيه المسلمين والمسلمات للقيام لصلاة الفجر. وكان الأمل يحدو بعض النسوة في إمكانية دخوله الإسلام، فجرت معاملته على أنه من "المؤلفة قلوبهم" دينيا، فبدا الجميع وقد تجاوزوا مرحلة الاستخدام السياسي!
قلت لواحدة منهن: وما قيمته إذا دخل في الإسلام؟ سيزيد المسلمون واحدا؟ لافتا إلى أن قيمته الآن أنه مسيحي منحاز لشرعية رئيس ينتمي للإخوان المسلمين، انما لو دخل للإسلام فسيفقد هذه الميزة إن بقي لها ثمة اعتبار. كما أنه ليس أحد العمرين الذين دعا الرسول ربه أن ينصر بأحدهما الإسلام في المرحلة المكية والمسلمون قلة يخافون أن يتخطفهم الناس!
كنت أتصور أن أختنا في الله، نسيت طبيعة مهمة رامي جان، لكن أدهشني أنها تعجبت من أنني لست سعيداً بإمكانية أن يدخل في دين الله، وأن يشرح الله صدره للإسلام!
هذا ما كان يتعامل به "رامي" مع العامة، لكن مع النخبة كان يمارس الابتزاز، حتى تم الدفع به مذيعا في قناة "مكملين"، دون أن يملك أي موهبة للقيام بهذا الدور، وفي مجال فشل فيه الإسلاميون فشلا ذريعاً، وها هم يكررون الفشل من جديد بهذه الاختيارات، مع سبق الإصرار والترصد!
وإذ خرج من قناة "مكملين" في أزمة، حاول فيها أن يمارس مزيدا من الابتزاز للقناة. فقد فتح له "أيمن نور" أبواب قناة "الشرق" على الرحب والسعة، ضمن مشروع التنوع الباهت الذي يقوم به، وهو لا يجد أمانه سوى مع هذه النوعيات. ولك تتصور أن اثنين من قيادات حزبه ومن اختياراته الحرة، هم نجوم في برلمان عبد الفتاح السيسي الآن!
المشكلة أن هناك من تقلقهم الشخصيات المستقلة، فيريدون شخصيات يسهل قيادها. والتجارب المتواترة أثبتت أن هؤلاء هم أول من يولي الدبر، ولم يكن رامي يواجه أي مشاكل، فهو يعمل، وينتقل من قناة إلى قناة، كما أنه ليس محروماً من زيارة مصر، لكنه شعر بالتشبع، ولم يعد عنده ما يقدمه فاعتبر ما سلف مرحلة لبناء اسم يمكن أن يستغله في الوجود الآمن في مصر. وقد طلب في مقابلته على قناة "دريم" أن يمكنوه من تقديم برنامج وهو يكشف أسرار جماعة الاخوان المسلمين، تماماً كما قال لهم في "مكملين" أنه يريد برنامجاً لفضح البابا تواضروس.. وقلت لهم إنه لا يمكنه أن يملأ حلقة واحدة من برنامج في هذا الخصوص، وفي الحقيقة أنه لا يملك معلومات تكفي لخمس دقائق في برنامج عن الإخوان!
الأنظمة الأمنية في النهاية لا يمكن لمغامر أن يمارس النصب عليها، فليس لدى الفتى ما يقوله عن الإخوان؛ لأنه لم يكن في الخارج جزءاً من أي فاعلية، وقد كان يقضي وقته كله رهين غرفته، وقد أقمت في ذات الفندق الذي أقام فيه لفترة طويلة، فلم أشاهده أبداً، لا في مطعم، ولا في حديقة، ولا في المصعد، ولم أتخايل به للحظة، وعندما سألت مقرباً منه أين الفتى؟ قال إنه عاكف على كتابة رواية، بعد ذلك اكتشفت أن موضوع الرواية هذا نكتة!
وهذا الانعزال ينفي أنه رجل مخابرات كما أراد أن يوحي، ربما ليدخل الغش والتدليس على أصحاب القنوات في مصر، ظنا منه أنها تدار بعيداً عن الأجهزة الأمنية!
عندما سقط صدام حسين، كان أسرع من باعوه هم النائحات الثكلى، الذين تقاطروا إلى مقابلة القائم بالأعمال في السفارة الإيرانية بالقاهرة، فاليد العاطلة نجسة، وكذلك فعل "رامي" الذي كان يبحث عن عرض قريب وسفر قاصد، فلما طال عليه الأمد، ذهب إلى القوم في القاهرة.
مبارك عليهم مقدماً، فقد اشتروا الترام!