اتصل بي أحد زملائي وأصدقائي الإعلاميين بقناة الشرق، يوم الجمعة، وقت الصلاة.. كنت قد دخلت المسجد بالفعل، فلم أرد. اتصلت به بعد انقضاء الصلاة، ألو.. أيوه يا عم. مش بترد ليه؟ معلش كنت في الجامع والله. ينفجر صديقي ضاحكا: مالك يا بني؟ لا خلاص بقى مفيش. فيه إيه صحيح؟ أصل أنا كنت طالبك أسألك أنت ألحدت امتى؟ ألحدت؟! آه؟ ده مين اللي قال؟ واحد هايف داير في إسطنبول كلها يقول فلان ملحد فاحذروه.. طيب وافرض؟ يحذروا من ايه بالضبط؟ مش عارف، بيقول كده!
في مجتمعات، زبالة، مثل التي نحيا فيها الآن، يتخوف المتدين الزائف على تدينه الهش من مختلف، حتى لو كان الاختلاف في أدق التفاصيل، سرعان ما يتشبث بإشاعة يروجها أي موتور ليثبت لنفسه أن توجسه من فلان أو علان له سبب وأصل لدى الآخرين، وليس لخلل لديه.
حكيت القصة لأحد مشايخ إسطنبول الذين تربطني بهم صداقة الكتاب قبل العيش والملح.. لم يندهش، وقال: احمد ربنا، أنت مثقف وشاعر، وتتبنى قراءات حداثوية للدين. ربما تعثر مكسح في طريقك فاعتبر العيب في الطريق لا في قدميه، أما أنا فشيخ أصولي، تربية مشايخ، أزهري، أشعري، مذهبي، "واخد الختم"، وقرأت بعيني عن نفسي أنني "علماني" و"زنديق"، بسبب فتوى نقلتها عن رشيد رضا ولم آت بها من عندي!
يحكي لي الشيخ أنه حضر خلافا يكفر أحد طرفيه (وهو داعية إسلامي شهير) واحد من أكابر علماء أصول الفقه، فلما رفض الحاضرون هذا
التكفير واعتبروه غلوا وشططا، وحاول أحدهم أن يناقشه، كاد الشيخ أن يكفر من لم يكفر من كفره، وانقلبت القعدة إلى "كفارة" بالكهربا.
الفكرة ليست في نصوص، ولا تراث، ولا حتى طريقة متهورة في القراءة والفهم.. الفكرة أن التركيبة النفسية للكثير من أبناء التيار الإسلامي اختلت، خاصة بعد ما تعرضوا له (وهو ليس بهين) من صدمات سياسية كانت لها امتدادات دينية لا تخطئها العين.
ليس غريبا أن يكون بين
الإسلاميين (وهنا أقصد الحركيين) من يصر على أن الرئيس محمد مرسي يختبئ خلف كهف القدر، ويوما ما سيظهر يملأ الدنيا عدلا كما ملأها السيسي جورا. ليس غريبا أن تملأ خيالاتهم المنهكة صور للمشانق معلقة تتدلى منها رؤوس خصومهم، وأنصاف خصومهم، وأرباعهم وأشعارهم، إلى أن تصل إلى شركائهم في القضية الذين سولت لهم أنفسهم بارتكاب خطيئة معارضة الرئيس الشرعي يوما ما!
التأمل في الحالة الإسلامية الآن لا يبعث إلى الاستياء أو التأفف كما يحدث لكثيرين، كما أنه لا يبعث إلى الإشفاق، فالحال من بعضه (بمستويات طبعا). إنما يدفع المراقب المتورط في العيش بين أكناف الإسلاميين للغضب من نخب هؤلاء ودوائر التأثير التي يمتلكونها على ملايين البشر، ويستغلونها للاتجار بآلامهم وشحنهم بالمزيد من الأكاذيب؛ مقابل استمرار البركة والاشتراكات، و"الميغة" التي يعيش فيها هؤلاء، وشبكة الفساد التي تجمعهم مع شركائهم في التكسب من وراء القضية...
هذه الطبقة من "أغنياء الانقلاب" هي أحط ما أنتجته الأزمة.. أزمة الانقلاب، والاعتقالات، وتشريد الناس في بلاد الله، والقضاء على هذه الطبقة مقدم على القضاء على السيسي نفسه، فدرء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، كما يقول الأصولي القديم.
ينهي صديقي المكالمة وهو يسألني: أسيبك وأروح أضرب اللي قال عنك ملحد بالشبشب على بقه! فأجابه: استنى يا بني حرام تظلم الناس، أنا بألحد طول ست أيام في الأسبوع، وأصلي الجمعة سابع يوم من باب الاحتياط!