كثيراً ما يستفزني ذلك المثل الشعبي الذي يقول "معاك قرش تسوى
قرش"، إذ إنه يعبر عن مادية مقيتة لهذا العالم الذي تسقط فيه كل القيم لتعلو
فقط قيمة المال عما عداها من قيم إنسانية أخرى تقيم الفرد وسلوكه ونظرة المجتمع له.
ولكن يبدو، ونحن في زمن التحولات الكبرى وانحراف البوصلة وتغير المعايير وتبدل
المفاهيم، أصبح هذا المثل تجسيداً أو تعبيراً عن واقع حقيقي نحياه في ظل عالم
منافق يرى بعين واحدة!
بالأمس القريب وليس البعيد؛ كانت
السعودية بنظر كثيرين
في العالم هي مصدر الإرهاب ومزرعة لتفريخ الإرهابيين للعالم، وكانت النخبة المنحطة
في
مصر تصف السعوديين بالبدو وتطلق عليهم صفة التخلف والرجعية، وأنهم يصدرون
لبلادنا الإسلام الوهابي، وإسلام البدو، ليغيروا تقاليد وعادات مصر الحضارية،
وأنهم يريدون "خلجنة" اللسان المصري من خلال استحواذهم على كبرى شركات
الإنتاج الفني وسيطرتهم على سوق الغناء في العالم العربي. وذهب البعض، وخاصة المسيحيين
منهم، إلى أبعد من ذلك، وكانوا يصفونهم بالغزاة الذين غزو مصر منذ فتحها الصحابي
الجليل عمرو بن العاص! لكن سبحان مغير الأحوال، فبين عشية وضحاها صارت نفس تلك
النخب تشيد بالدور السعودي وتبارك استيلاء السعودية على جزيرتين مصريتين، وتسارع
للترحيب بزيارة ولي العهد السعودي الأمير "محمد بن سلمان" لمصر، وتسابقوا
فيما بينهم كي يقع عليهم الاختيار ويكونوا من أصحاب الحظوة التي ينعم عليها عظمته
بلقائه فامتلأت الصحف بمقالات تمجيد لهذا الصبى الطامح للعرش حتى بلغ الفُجر مداه
أو قل الكفر إن شئت أن كان عنوان جريدة الدستور "كيف استرد محمد بن سلمان
الله من أيدى المتطرفين". وفي سباق التنافس المحموم بين الصحف للتقرب زلفى
للملك القادم، كان مانشيت جريدة أخرى "الملك سلمان من تحته ألف ملك".
أما مصر الرسمية، فقد امتلأت شوارعها باللافتات
الإعلانية، الالكترونية منها وغير الالكترونية، التي تحمل صور ولي العهد والترحاب بزيارته الميمونة. وذهب رئيس الجمهورية بنفسه،
مخالفاً البروتوكول، لاستقباله، بل والوقوف عند سلم الطائرة في انتظار نزول
عظمته!! منتهى الإهانة لدولة صدعوا بها رؤوسنا من كثرة ما تغنوا لها بحضارة السبعة
آلاف سنة. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يخالف فيها السيسى للبروتوكولات
الدولية، إذ سبق وصعد الطائرة لمقابلة ملك السعودية الراحل الملك عبد الله بن عبد
العزيز، والاجتماع به على متن الطائرة، وجلس في صف حاشيته وبطانته وكأنه من رجال
دولته، وليس على الجانب المقابل
نداً له كرئيس دولة مثله.
فالسعودية منذ الانقلاب العسكري عام 2013 وهي أهم رعاته،
مع دولة "المؤامرات" العربية، تتصرف مع مصر وكأنها تابع لها، أو إن شئت
فلتقل تتعامل معها بنظام الكفيل. فبأموالها تم الانقلاب على أول رئيس منتخب في تاريخ
مصر، وبأموالها أوصلت قائد الانقلاب إلى الحكم، وبأموالها تجعله مستمراً حتى اليوم،
وبأموالها اشترت جزرا مصرية وأراض
مصرية، وبأموالها ستقيم مشروع
ابن سلمان المسمى "نيوم"، والذي يربط ما بين
الحدود البحرية السعودية والحدود المصرية والحدود الأردنية وحدود الأراضي
الفلسطينية المحتلة، والتي بموجبه منحتها الحكومة المصرية ألف كيلومتر مربع من
أراضي جنوب سيناء لتكون ضمن مدينة عملاقة ومنطقة تجارية ومشروعات سياحية، بالإضافة
إلى 50 منتجعاً وإنشاء موانئ خاصة باليخوت.
هذا كان أحد أهم ما حصل عليه الأمير الميكافيلي الصغير
"محمد بن سلمان" في زيارته لمصر، إذ بدأ الخطوات الأولى لتنفيذ مشروعه "نيوم"،
والذي يصب أولاً في صالح الكيان الصهيوني.
إن مشروع نيوم ما هو إلا النواة الأولى للشرق الأوسط
الجديد الذي نادى به "شيمعون بيرز" في التسعينيات من القرن الماضي،
وأصدره في كتاب بعنوان "الشرق الأوسط الجديد"، مبشراً بريفيرا البحر
الأحمر، لتطبيع علاقات البلاد العربية مع الكيان عبر في مشاريع مشتركة يهيمن عليها
بطبيعة الحال الجانب الصهيوني. ولم يتمكن من تحقيقه، حيث كانت فلسطين لا تزال
حاضرة في الوجدان والضمير العربي، وكانت حدة العداء لدى الشعوب العربية تجاه
الكيان الصهيوني لا تزال على أشدها، ولم تفسدها بعد تلك النخب الليبرالية التي صنعت
في مراكز الأبحاث الأمريكية وعادت لبلداننا العربية لتفسد الفكر العربي، وتعيد
تشكيل وجدانه من جديد وتغير البوصلة عن العدو التاريخى للأمة وهو العدو الصهيوني. وأعيد
المشروع مرة أخرى مع المحافظين الجدد في عهد جورج بوش الابن، وبشرت به وزيرة
الخارجية الأمريكية السابقة "كونداليزا رايس" في عام 2006، ولكنه أيضا
تعرقل ولم يتم تنفيذه. فقد كان لا يزال هناك نوع من الممانعة لدى الشعوب العربية،
وكانت هذه الممانعة تقف على أرض صلبة، وليست رخوة كما هو الحال الآن، حيث تفككت
معظم الدول العربية الكبرى التي كانت تتصدى لهذا المشروع وانشغلت في حروب أهلية،
كالعراق وسوريا وليبيا واليمن، والبعض الآخر انكفأ على مشاكله الداخلية مع نظامه،
وغابت القضية الفلسطينية بعض الشيء عن فكر المواطن العربي، أضف إلى ذلك الصبية
الذين أتوا بهم ليتحكموا في مصير الأمة ويوجهونها حيث يريد الكيان الصهيوني، كعيال
زايد وهذا الميكافلى الصغير المستعد لتقديم كل شيء وأيء شيء لتمكينه من عرش بلاده،
ولذلك فهو يسرع الخطى في تنفيذ مشروعه الصهيوني (نيوم) من أجل سرعة التطبيع مع
الكيان الصهيوني، في الوقت الذي يجري فيه الاستعداد لإعلان صفقة القرن، والتي تُستقطع
فيها أجزاء من أراضي الأردن وسيناء موازية لغزة لينقل إليها الفلسطينيون، وتصبح
الوطن البديل ليسقط حق العودة نهائياً وتصفى القضية الفلسطينية تماماً؛ تزامناً مع
نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في 14 أيار/ مايو القادم، اليوم الذي احتلت فيه
فلسطين.. في الذكرى السبعين للنكبة!
واختيار ترامب لهذا اليوم بالذات ما هو إلا إمعان في المزيد
من الإذلال للعرب وللمسلمين! والمؤسف أن الذي يسعى لإتمام تلك الصفقة ونقل السفارة
هو الجانب العربي؛ للإسراع بالتطبيع كما ذكرنا، فكان الضغط السعودي والمصري على
ملك الأردن الملك "عبد الله بن الحسين" ورئيس السلطة الفسطينية المنتهية
ولايته "محمود عباس"، لإجباره عن التخلي عن القدس واستبدالها بـ"أبو
ديس"، وحينما لم تجد هذه الضغوط نفعاً، يعملان (الجانبان السعودي والمصري)
الآن مع شريكهما الثالث محمد بن زايد على استبداله (عباس) بمحمد دحلان. كما أن
السعودية قطعت الدعم المادي الذي كانت تقدمه للأردن، وكان حوالي المليار ونصف
مليار دولار، كنوع من العقاب! وتعمل دولة
الإمارات على زعزعة
الحكم في الأردن، لتركيعه والمشي في ركابها، فما كان من ملك الأردن إلا إبرام اتفاقية
للتعاون العسكري مع تركيا.
وما كان لترامب أن يتخذ قراره بنقل السفارة إلا بوجود
مثل هؤلاء الصبية من الحكام العرب. فكم من رئيس أمريكي سابق وعد خلال حملته الانتخابية
بنقل السفارة، ولكنه لم يستطع أن يفي بوعده عند توليه الحكم، ولم يجرؤ على تنفيذه
بعد دخوله البيت الأبيض.
ولم يفت ولي العهد السعودي زيارة الكنيسة المصرية،
وكأنها هي الأخرى من ضمن أوراق اعتماده لدى البيت الأبيض لاستلام العرش، لذلك
تغاضى عن تجاهل الكنيسة للتقاليد بوضع علم بلد الضيف الزائر في الخلفية، كما تفعل
مع كل المسؤولين الأجانب الذين يزورونها، وبرره الخبثاء بأن العلم يحمل لغة التوحيد
(لا إله إلا الله محمد رسول الله). وكان للكنيسة موقفها العدائي المعلن وغير
المعلن تجاه السعودية منذ أيام بابا الكنيسة السابق البابا شنودة، ولكن المال السعودي
يشترى العداءات ويغير سياسات، وخاصة إذا كان هناك عدو آخر مشترك يجمعهما، ألا وهو
الإسلام السياسي ويسميانه الإرهاب!!
***
وإذا كان المال السعودي استطاع أن يغزو الشوارع المصرية
بصور الأمير الطامح ولافتات الترحيب، فإن الشوارع البريطانية أغرقت هي الأخرى بلافتات
الترحيب بذاك الزعيم وزيارته الميمونة ورفعت صوره على الأعمدة وملأت الميادين،
وكأن أعرق دولة ديمقراطية في العالم قد تحولت إلى دولة من العالم الثالث!
حتى الإعلام البريطانى العريق، من صحيفة التايمز إلى
صحيفة الديلي تيلجراف، استطاع المال السعودي أن يشترى الصفحات فيها لتهلل وتمجد بهذا
الأمير الإصلاحي الشاب الذي سينقل السعودية إلى العصر الحديث! ونسوا أو تناسوا
وتغاضوا عما فعله هذا الأمير من حبس الأمراء ورجال الأعمال والمفكرين والإصلاحيين
ورجال الدين، وحالات الإعدام التي تمت في عهده، وانتهاك حقوق الإنسان بصفة عامة في
السعودية، والكوارث الإنسانية التي فعلها في حربه المجنونة في اليمن.. فليسقط كل هذا
في سبيل أن ينهض الاقتصاد البريطانى من عثرته بالأموال السعودية (خاصة بعد خروج
بريطانيا من الإتحاد الأوروبي)، والتي تقدر بنحو 100 مليار جنيه إسترليني تضخ كاستثمارات
سعودية في بريطانيا، على مدى السنوات العشر المقبلة. وليمت الأطفال اليمنيون، ولتحيا
شركة إيروسيبس البريطانية لتبيع الجيل الثالث من الطائرات التايفون المقاتلة للسعودية.
ولنغض الطرف عما يرتكبه من جرائم إنسانية كي تحظى بورصة لندن بالطرح الأول للاكتتاب
لأسهم أرامكو، أكبر شركة نفط في العالم؛ لأن عظمته هو مَن سيقرر في أي بورصة سيجرى
الطرح الأول للاكتتاب العام. فلغة المصالح والمال أقوى من قيم حقوق الإنسان التي لا
يعبأ بها الغرب إلا إذا كانت تخص مجتمعاته فقط. إنه عالم منافق جبان تحركه المصالح،
ويرسم سياساته صاحب الثروة والمال، والذي يستطيع أن يشترى به النفوذ والسلطة.
ولكن هذا لا يمنع أن كانت هناك قوى سياسية وشخصيات عديدة
عارضت زيارته لبريطانيا، وهاجمت رئيسة الوزراء "تيريزا ماي" بشدة في مجلس
العموم، وكتبت مقالات في الصحف تهاجمه بشدة وتصفه بالأمير القاتل، لتدميره لليمن
وقتل المدنيين اليمنيين. واتهم زعيم المعارضة "جيرمي كورين" الحكومة
بالتواطؤ في جرائم الحرب لبيع الأسلحة للسعودية، ونظمت وقفات احتجاجية تنديداً
بهذه الزيارة. واحتشد متظاهرون خارج مقر رئيسة الوزراء، وهذا ما لم تفعله النخب
المصرية، ولم يجرؤ عليه أي نائب مصري في البرلمان. فالكل منبطح أمام عطايا عظمته.
وإذا كنت قد بدأت بمثل شعبي، فإني أنهيه بمثل آخر يقول:
"أطعم الفم تستحي العين". فقد سبق أن أهدى الملك سلمان ساعات رولكس
لنواب البرلمان في زيارته لمصر، بعد موافقتهم على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير
للسعودية!