ليس صراعاً واحداً، وإنما جملة من الصراعات باتت تتشابك على سطح الأزمة السورية، بل تتلطى بها.. فمن الصراع على ترتيب الأدوار والقوى في النظام العالمي المراد تعديل بنيته وقوامه، إلى صراعات القوّة الإقليمية الساعية لأدوار أكبر من أحجامها، فضلاً عن الصراع على الغاز الذي بدأ يعلن عن نفسه بوضوح، بما يزيد من مستوى تعقيدات الأزمة ويحوّلها إلى صندوق رسائل للمتصارعين.
ويجري تحميل ثقل هذه الصراعات على الأزمة السورية، وهي في الواقع أزمات كبيرة يحتاج التعاطي معها لمساحة زمنية أطول ومناخ مختلف لا يصدر عن هذا الكم من التوتر، في حين تشكل هذه المدخلات الأزموية إرباكا متقدما وتعطيلا لمفاتيح الحلول الممكنة.
وإذا كان من المعلوم أن من تقنيات حل أي صراع هو تخفيض أطرافه لسقوفهم؛ بغية الوصول إلى نقطة مشتركة يمكن من خلالها بناء اتفاق لا يكون فقط قابلا للاستمرار، وإنما يشكل أيضا مدخلاً لحل مختلف القضايا المرتبطة بالصراع، فإن الصراع السوري يصعب إرجاعه إلى الوضع البسيط، بوصفه صراعا سياسيا يمكن حله بوسائل وأدوات سياسية، بعيداً عن تعقيدات صراعات التنافس والمصالح الدولية والإقليمية التي تتراكب، عنوة، مع هذا الصراع.
ليس سراً أن التنافس على الغاز كان أحد العوامل الرئيسية للصراع في
سوريا، ورغم كل ما يقال عن مبدئية مواقف
روسيا وإيران في دعمهما لنظام الأسد، إلا أن المحتوى المصلحي، ببعده الاقتصاد،ي كان محركاً مهماً في سياسات موسكو وطهران، لكن ما جعل هذا البعد مخفياً، وعدم تحوّله إلى مفتاح تحليلي في الكثير من قراءات التدخل الروسي
الإيراني في سوريا؛ أن النتيجة المراد تحقيقها سلبية أكثر منها إيجابية، فسوريا ليست بلدا منتجا للغاز بقدر ما هي دولة محتملة لمرور الغاز العربي إلى أوروبا ومنافسة الروس والإيرانيين في أهم مصادر أموالهم وثرواتهم، وبالتالي فإن السيطرة عليها تلغي مثل هذا الاحتمال.
وليس الغاز مجرد سلعة عادية؛ بقدر ما هو مادة استراتيجية، شأنها شأن النفط، وبالتالي فهي بالإضافة إلى كونها مصدر للثروة، فهي أيضا بوابة روسيا وإيران، (صاحبتا أكبر احتياطات عالمية)، للتأثير الدولي، والحصول على مواقع تقريرية في النظام الدولي، على اعتبار أن مجالات تأثيراتهما ستغطي مجمل مساحات أوروبا وآسيا، نظراً لكونهما يمتلكان (أو من السهل بناء) نواقل هذه المادة باتجاه آسيا وأوروبا، في حين بدائل الغاز العربي بدون البر السوري معدومة، ذلك أن اعتماد نقل الغاز بالوسائل التقليدية تخرجه من إطار المنافسة، نظراً للتكلفة الكبيرة له.
بيد أن المشكلة في الأمر أن روسيا وإيران لم تقفا عند حد مكسب تأمين إبعاد المنافس العربي، بل ذهبتا بعيدا في رسم مساحة الممكنات التي يتيحها لهما احتكار تصدير الغاز، بل والفرصة الممكن اقتناصها أصلاً من الأزمة السورية، بعد تحويلها من تحد إلى فرصة. وهذه المعالجة بالطبع تمت على جثث السوريين، ولم يكن لها غير هذا المعبر باعتبار أن الأطراف الأخرى محصنة بأوراق قوة تجعلها خارج ممكنات التأثير الروسي الإيراني.
لم يجد الغرب نفسه مضطراً لتقديم تنازلات لروسيا لأنها وصلت لشواطئ المتوسط، كما لم يتوقف كثيراً عند صراعات النفط والغاز، فالمسألة بالنسبة له محلولة منذ زمن، بقدر حاجة المستهلك للطاقة يحتاج المنتج لموارد مالية، ولم تعد الأساليب الكولونيالية قادرة على العيش في ظل تحوّل العالم لأنماط أكثر عصرية للتأثير والانتشار. كما أن إسرائيل التي أرادت إيران تطويقها استراتيجيا، طمعاً بإضافة مزايا جديدة لموقعها الإقليمي، جعلت هذا الطموح مكلفاً للغاية حتى أن تحقيقه بات يساوي انهيار إيران الرازحة تحت ضغوط مطالب شعبها بالتغيير، والآن وليس غداً.
ما توقف عنده الغرب، وكذلك إسرائيل، هو رفض الاعتراف لموسكو وطهران بالثقل السياسي المزعوم، والذي يشكل مفتاحا لاعتبارهما اطراف جدية في المنظومتين الإقليمية والدولية. صحيح أن تلك الأطراف لم تنتج سياسات مواجهة ضد روسيا وإيران في سوريا، لكن فقط لهامشية سوريا في حسابات الغرب المصلحية، بل ربما أكثر من ذلك.. لاعتبارها ساحة لاستهلاك طاقة الخصوم.
وعند هذه النقطة، يبرز المؤشر الأكبر على تحوّل سورية إلى ساحة وظيفية تعتبرها روسيا وإيران انعكاساً لتأثيراتهما وتطالبان المجتمع الدولي بتسييل هذا الواقع على شكل اعتراف دولي لهما بالفعالية والتأثير، في الوقت الذي يضع الغرب الأزمة في سياق استهلاك طاقة هؤلاء اللاعبين الجدد، وإبعاد تهورهم عن ساحات ومناطق أكثر أهمية في منظومة المصالح الغربية.
بناء على هذه التصورات المتضاربة لمصادر القوّة والتأثير، بين من يرى في الأزمة السورية فرصة لجعل الأطراف الأخرى تدفع ثمن ضغف فعاليتها، وبين من يرى فيها فرصة لتدفيع هؤلاء ثمن حساباتهم الخاطئة، تشكل الساحة السورية إغراء لفتح كل الملفات وتصفيتها على أرضها، وهو ما يرفع مستوى التعقيد إلى أبعد الحدود، ويجعلها أرضاً ولادة للحروب وخصبة لإنمائها.