نتيجة فشل الروس في تحقيق اختراق سياسي في سوتشي، ونتيجة لفشل المحور الروسي في إجراء خرق في جدار "قوات
سوريا الديمقراطية" المحمية أمريكيا، بدأ الروس إعادة ترتيب المشهد العسكري في مناطق خفض التوتر؛ بما يناسب المواجهة مع الولايات المتحدة التي تحمل عنوان الصراع في المرحلة المقبلة.
لم تعد مناطق خفض التوتر ذات أهمية كبيرة بالنسبة للروس بعد التغيرات التي طرأت في إدلب ودخول الأتراك معركة عفرين، وما فرضته من وقائع جديدة على الأرض، في حين تبدو منطقة خفض التوتر الثانية (الجنوب السوري) بعيدة عن الاهتمام بسبب ارتباطها بالأردن وإسرائيل. أما المنطقتان الثالثة والرابعة داخل العمق السوري (
الغوطة الشرقية، ريف حمص الشمالي)، فيجب أن تخرجا من اتفاق خفض التصعيد ويجب إيجاد حل لهما، إما عن طريق الحل العسكري أو ما يسميه النظام المصالحة الوطنية (الاستسلام).
وبالتالي، لا يخرج استخدام النظام السوري وروسيا القوة العسكرية المفرطة في
الغوطة الشرقية عن معادلة تثبيت مناطق النفوذ؛ ضمن الصراع المعلن بين المحورين الروسي- الأمريكي. كما لا تخرج العمليات العسكرية في الغوطة عن معادلة الصراع المضمر بين الحلفاء (
روسيا، إيران).
المقاربة الروسية في إدلب والغوطة الشرقية يجب النظر إليها من زاوية الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن.
يبدو من الصعب الحديث عن
عمليات عسكرية كبيرة في الغوطة الشرقية؛ تقارب في قوتها ما جرى في حلب أو حماة أو ريفي اللاذقية الشمالي والشرقي ودير الزور. بمعنى أن المعارك الجارية الآن ليست بهدف السيطرة على كامل الغوطة، فلا الزمن يسمح بذلك (خصوصا بعد صدور القرار الدولي 1401)، ولا التفاهمات الدولية تسمح بذلك.
المناطق المحيطة بدمشق لها خصوصيتها، ولذلك لم يقم النظام بعمليات عسكرية للنظام في كل البلدات المحيطة بدمشق خلال السنوات السابقة (الشمال الغربي: تل منين / بلدات وادي بردى، الغرب: المعضمية، الجنوب: داريا / مخيم اليرموك / التضامن / بيت سحم / ببيلا، الشرق: الغوطة الشرقية)، لأسباب عديدة:
- هي مناطق معزولة عن محيطها الخارجي، ويسهل حصارها كبديل عن العمليات العسكرية المباشرة.
- ذات ثقل سكاني كبير، ومن شأن العمليات العسكرية أن تهدم البنى التحتية، وتدفع الأهالي للنزوح نحو دمشق.
- يرغب النظام ببقاء هذه البلدات كحزام سكاني يحمي دمشق من أية تغيرات مستقبلية مفاجئة في الصراع السوري.
- يرغب النظام بإجراء تسويات تسمح له باستجلاب عناصر مقاتلة للقتال معه بعد تسوية أوضاعهم.
وفيما يتعلق بالغوطة الشرقية، فثمة نقطتان مهمتان تضافان إلى ذلك، أولهما أن الغوطة تشكل السلة الغذائية لدمشق، وبالتالي فإن العمليات العسكرية البرية ستؤدي إلى دمار الأراضي الزراعية أكثر مما هي مدمرة الآن بكثير. والثانية، أن الغوطة لها ثقل سكاني (400 ألف نسمة) مع تشابك المنازل والأحياء، ما يحول دون عمل الجيش النظامي ويفرض الانتقال إلى حرب العصابات، وهذا أمر صعب للغاية في ظل وجود فصائل عسكرية ذات وزن ولديها خبرات كبيرة في هذا النوع من القتال، وتمتلك أنفاقا وخنادق معقدة. و"غزوة دمشق" بداية العام الماضي ومعركة إدارة المركبات أواخر العام الماضي والعام الحالي؛ تدل على ذلك.
الهدف الأساسي من التصعيد العسكري الكبير هو إخراج الغوطة من معادلة الصراع، ولما كان هذا الأمر صعبا لأسباب عسكرية ولأسباب إقليمية ودولية، يعمد المحور الروسي على إضعاف قوة المعارضة العسكرية؛ عبر محاولة تقطيع الغوطة، والاستيلاء على بعض المناطق الحاكمة التي من شأنها أن تضع الفصائل تحت نيران النظام، تمهيدا لإجراء تسوية على غرار التسويات التي جرت في جميع البلدات المحيطة بدمشق. كما أن الروس يسعون إلى إبعاد الإيرانيين من الغوطة الشرقية التي تتوسط بين العاصمة وبادية حمص وبادية السويداء.
يبدو أن التركيز الروسي في مجلس الأمن على ضمان الآليات الكفيلة باستدامة وقف إطلاق النار؛ مؤشر على أن الروس يحاولون عبر البوابة الأممية فرض تسوية في الغوطة تسمح بنشر شرطة عسكرية روسية (شيشانية) فيها بحسب تفاهمات أستانا، وقطع الطريق على إيران في هذه المنطقة.
باختصار، يعمل الروس على تسوية المناطق القابلة للتصرف بمستويات مختلفة، كالغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، والقلمون الشرقي. ولعل إعلان موسكو قبل نحو أسبوعين أن مهلة الهدنة في ريف حمص الشمالي ستنتهي ولن تجدد؛ ليست سوى مقدمة لإجراء تسوية نهائية تشابه حي الوعر في حمص، كما أن تعزيز النظام لوجوده في مطار الضمير العسكري، يدل على أن استعداده فتح جبهة بلدتي الضمير/ الرحيبة لإجراء تسوية مشابهة.
إن إنهاء الجيوب الجغرافية في العمق السوري، إما بتسويات أو هدن أو إبادة عسكرية، هي مرحلة ضرورية للانتقال إلى المرحلة الثانية التي تتطلب تسخير كل الإمكانيات لمواجهة المشروع الأمريكي في الشمال والشمال الشرقي من سوريا.