إن مثل
تيران وصنافير كمثل القاهرة والإسكندرية، فلسنا بحاجة إلى حكم قضائي يؤكد أنهما مصريتان، وبالتالي فإن الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا لا يغير من طبيعة الأمر شيئاً!
منذ البداية، كنت ضد اللجوء إلى
القضاء لإثبات الملكية
المصرية للجزيرتين؛ لأن اللجوء إليه يدخلنا على ملعب السلطة، ويطفئ جذوة الحماس ما دامت هناك وسيلة آمنة لإثبات الحق وتأكيد ملكية مصر للجزيرتين، لكن من جاء ليصرف المظاهرات الرافضة للتنازل، كان له رأياً آخر. ودائماً تمثل ساعات انصراف المتظاهرين فرصة ثمينة لأجهزة الأمن للانقضاض والاصطياد، والقبض على من يعن لها من المنسحبين، تماماً كما حدث في مليونية مسجد الفتح بالقاهرة، بعد فض رابعة، فقد انقضت قوات الأمن على من تريد، ومن أعلن قرار الانصراف ناله من الحب جانباً، إذ اختطفه الأهالي في المنطقة المجاورة، ودخلوا مفاوضات لإطلاق سراحه، وأعني بذلك الدكتور صلاح سلطان، الذي أعاد تجربة القيادي الإخواني عبد القادر عودة، عندما استجاب لجمال عبد الناصر، في أزمة آذار/ مارس سنة 1954، وأمر الإخوان المتظاهرين أمام قصر عابدين بالانصراف، فإذا بهذا الزحام لا أحد، وتم إلقاء القبض عليه بعد هذه الواقعة، والحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم فيه فعلا!
كان المرشح الرئاسي السابق "خالد علي"، قد أعلن أنه لن يشارك في مظاهرات "يوم الأرض"، لأن الإخوان أعلنوا مشاركتهم فيها، فلم يحضر ولم يحضر الإخوان. ولما جاء في آخر النهار، كان لإقناع المتظاهرين بالانسحاب، وضمان خروج آمن لهم. وفي لحظة الانسحاب تم القبض على عدد من الشباب، وبتقديمهم للنيابة المختصة، تم خروجهم بكفالات ضخمة وغير مسبوقة، ولم تعرفها مصر حتى مع المتاجرين "في الممنوع"!
لقد أقام محام مغمور دعوى أمام القضاء الإداري، ووجدها "خالد علي" فرصة ذهبية فنفر إلى مجلس الدولة خماصاً وبطانا، مع ما في الأمر من مغامرة، فالموضوع يمكن أن يندرج تحت ما يسمي بنظرية أعمال السيادة، وهي القرارات التي تصدرها السلطة ولا تخضع لرقابة القضاء. وهي نظرية فاسدة، جاءت وجاهتها من عقدة "الخواجة"؛ لأن أول من عمل بها هو مجلس الدولة الفرنسي، وهوى القانونيين في مصر فرانكفوني. وقد ابتدعها حتى لا يصطدم بالسلطة القائمة، تحت عنوان "أعمال الحكومة"، وقد وجدت فيها الأنظمة العسكرية الشمولية في بلادنا العربية بضاعة قابلة للاستيراد للإفلات من رقابة القضاء، مع أن النصوص الدستورية تقول إن السيادة للشعب!
ولأن "أعمال السيادة"، بعد مرور أكثر من ثلاثة أرباع القرن من اعتمادها لم يتم تحديدها على سبيل الحصر، وأمر تحديدها متروك للقضاء. فهناك من يتوسع فيها، وهناك من يرفضها، فإن المغامرة تظل قائمة، إذا تم الحكم في محكمة القضاء الإداري بمصرية الجزيرتين؛ لأن المحكمة الإدارية العليا التي أناط بها القانون نظر الطعون في أحكامها، يترأسها قاض معروف بانحيازاته السياسية للسلطة القائمة، وانتماؤه للدولة العميقة معروف منه بالضرورة، وأعني به المستشار يحيي الدكروري. لكن الرجل انتصر لقدسية الأرض، في معركة بدا من الحماس لها هي معركة المصريين جميعاً، إلا قلة يمثلهم المفرط في التراب الوطني، الجنرال عبد الفتاح
السيسي!
لقد صدر حكما قضاء مجلس الدولة يؤكد أن سيادة مصر على تيران وصنافير مقطوع بها، وأن الحكومة لم تتقدم بثمة مستند يؤكد خلاف ذلك، لكن كان من المؤكد أنها لن تكون نهاية المطاف، فتدخل ما يسمى بمجلس النواب، كما تدخل قضاء غير مختص، ليبطل حكماً قضائياً، وهي محكمة عابدين للأمور المستعجلة، التي استخدمها نظام مبارك من قبل أداة لتعطيل أحكام القضاء الإداري، بالمخالفة الواضحة للقانون وللمبادئ التي أقرتها محكمتي النقض والإدارية العليا، من أن أحكام القضاء الإداري، لا يجوز الطعن عليها أمام القضاء العادي، كما لا يجوز وقف أحكام أول درجة إلا إذا قضت بذلك دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا!
وكان الجميع يدرك هذا الاستخدام السلطوي لمحكمة الأمور المستعجلة في إهدار حجية أحكام القضاء الإداري، فقد كان الحرص بعد الثورة أن يتضمن الدستور ذاته نصاً يتضمن هذه المبادئ، وهو ما ورد في الدستور الذي وضع في عهد الرئيس محمد مرسي، تماماً كما تضمنه الدستور الذي وضعه الانقلاب العسكري ولا يزال سارياً إلى الآن. وقد عاد دور محكمة عابدين للأمور المستعجلة بوقوع الانقلاب، وهو ما غاب عن فطنة من دفعوا بقضية الجزيرتين للقضاء، ولعله لم يغب، فقد كان "الشو الإعلامي" هو المقدم على أي خيار!
كان واضحاً أن سلطة التفريط تريد أن تخلق تناقضاً يدفعها إلى اللجوء إلى المحكمة الدستورية، التي أناط بها القانون ضمن ما أناط، الفصل في الأمر عند وجود تنازع في الاختصاص بين المحاكم المختلفة!
ترتيب اختصاص للمحكمة الدستورية، يكون في هذه الحالة عند وجود حكمين نهائيين متناقضين في قضية واحدة، وفي الحقيقة أنه لا يوجد حكمان متناقضان. فقضاء مجلس الدولة ألغى اتفاقية ترسيم الحدود وقضى بأن تيران وصنافير مصريتان، في حين أن "الأمور المستعجلة" ألغت الحكم ولم تمس جوهر الموضوع، فضلاً عن أننا لسنا أمام حكمين نهائيين، فلا يوجد سوى حكم واحد نهائي هو الذي أقر بمصرية الجزيرتين!
ومهما يكن، فمع وجود حكمين نهائيين، فإن المحكمة الدستورية العليا، ليست جهة طعن، وهي عندما تنظر في هذه الأحكام "لا اختصاص لها بمراقبة التزامها حكم القانون، أو مخالفتها لقواعده.. بل يقتصر بحثها على المفاصلة بين الحكمين النهائيين المتناقضين على أساس من قواعد الاختصاص الولائي، لتحدد - على ضوئها - أيهما صدر من الجهة التي لها ولاية للفصل في الدعوى، وأحقها بالتالي بالتنفيذ".
(راجع حكم المحكمة الدستورية العليا بجلسة 5 شباط/ فبراير 2004، في القضية رقم 5 لسنة 25 قضائية تنازع).
وعندما تقرر المحكمة الدستورية وقف تنفيذ الحكمين، فإنها تكون قد خالفت المبادئ التي أرستها؛ لأنها عندما تقرر أن قرار ترسيم الحدود من أعمال السيادة، فإنها تكون قد فصلت في الموضوع على أساس أنها جهة طعن في هذه الأحكام!
وعموماً، فإن حكم المحكمة الدستورية لم يقر بأن الجزيرتين سعوديتان، فقد أحال إلى المادة (151) من الدستور، وهي وإن جعلت رئيس الجمهورية هو من يمثل الدولة في التصديق على المعاهدات الخارجية بعد موافقة مجلس النواب، فإن ذات المادة ميزت بين نوعين من هذه المعاهدات:
الأول: معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بالسيادة، وهذا النوع يجب معه دعوة الناخبين للاستفتاء عليه، ولا يتم التصديق على هذه المعاهدات إلا بعد إعلان نتيجة الاستفتاء.
الثاني: المعاهدات التي تخالف الدستور أو تلك التي يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة. وهذا النوع لا يجوز البتة، سواء بموافقة البرلمان بالإجماع أو بالاستفتاء!
والسؤال: هل كان من لجأ لإثبات الحق عن طريق المحاكم لا يدرك نسبة المغامرة في الموضوع؟!
لقد أعلن "خالد علي" ومن معه، أنهم سيتقدمون ببلاغ للنائب العام بعد صدور الحكم النهائي بمصرية الجزيرتين، ضد "المفرط الأكبر" لارتكابه أعمالاً يترتب عليها البدء في اتخاذ إجراءات عزله ومحاكمته بتهمة الخيانة العظمى! وهو بلاغ سيكون مصيره الحفظ حتماً، لكن ما دام الرأي استقر باعتماد "سكة التقاضي" فلماذا لم يسيروا فيه للنهاية، على قاعدة أن على المرء أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح؟!
ما علينا، فحكم المحكمة الدستورية العليا لم يقل بسعودية الجزيرتين، ولم يقر بتسليم السيسي لهما، لكنه عاد بالأمر إلى ما قبل صدور حكم محكمة القضاء الإداري، وقبل اللجوء إلى القضاء كنا ندرك أن تيران وصنافير مصريتان، إدراكنا بأن القاهرة والإسكندرية مصريتان!
وبالتالي، فإن تيران وصنافير هي الآن أرض محتلة.