تناقل البعض في الآونة الأخيرة عن موظف عمومي في دولة نامية؛ أنه احتاج لخمسين سنة لكي يفهم مفهوم الدولة، الأمر الذي جعله يسعى لعمل أكاديمية حتى لا يتصدر أحد للشأن العام دون علم كاف.
وخشية من ضياع عمر طلاب هذه الأكاديمية لأجل إدراك مفهوم الدولة، أو البحث في الكتب الخاطئة البعيدة عن كتب علوم
السياسة، فهذا إسهام من ثنايا ما يتعلمه الطلبة المبتدئون في علم السياسة، لإنقاذ إخواننا في ذلك القطر المسكين من منهج بحث هذا الموظف، وتسهيلا على من أراد أن يتولى منصبا عموميا هناك.
لا بد - في البداية - من إدراك مفاهيم أساسية حول نشأة المجتمعات السياسية وتشكّل الظواهر السياسية وكيفية وصول الدولة إلى شكلها الحالي. والمفتاح يبدأ من الإنسان ذاته وكيفية وجود السياسة بشكل عام، وهو ما تم تفسيره لدى علماء السياسة والفلاسفة - باستثناء كبير الفلاسفة - بأن "الإنسان سياسي بطبعه"، ويعنُون بذلك أن كل إنسان يوجد بداخله متناقضان: رغبته في السيطرة، واستعداده للطاعة، فما من إنسان إلا وهو يرغب في السيطرة على من حوله. وفي نفس الوقت، إذا كان هناك شخص أقوى منه ولا يقدر على مجابهته فهو مستعد لطاعة ما فرضه من قانون، وأثر هذين المتناقضين أنشأَ أُمَّ الظواهر السياسية وهي ظاهرة "التميّز السياسي" التي تعني تميّز المجتمعات إلى حاكمِين ومحكومِين.
أدى التميز السياسي في المجتمعات إلى نشوء ظاهرة أخرى، وهي ظاهرة "السلطة السياسية"، والتي تعني احتكار فئة الحكم لأدوات فرض النظام كسلطة إصدار القوانين وفرض الجزاءات وتنفيذ العقوبات وحمل السلاح، لكن هذا الاحتكار لا يستقيم لجماعة الحكم إن لم يكن مصحوبا بتصور المحكومين له بأنه يهدف لتحقيق الخير العام.
هذا التقسيم جعلنا إزاء ركنين لوجود سلطة سياسية في مجتمع ما، وهما ركن مادي يتمثل في احتكار أدوات القوة من قبل الحاكمين، وركن معنوي يتمثل في شرعية هذا الاحتكار وخيريّته لتحقيق الصالح العام للمجتمع، فمجرد احتكار أدوات الإكراه المادية لا يعني في ذاته نشوء سلطة سياسية، بل إن ما يجعل من الإكراه سلطة مقبولة هو ذلك الجانب المعنوي المتعلق بتصور المجتمع لشرعية الاحتكار وخيريته.
وإيضاح أهمية الجانب المعنوي يتمثل في تساوي ضابط الشرطة واللص في حمل السلاح، لكن تصور المجتمع بأن حمل الشرطي للسلاح يستهدف مصلحة المجتمع أكسبه شرعية في مقابل اللص، وكذلك العلاقة بين الجنسين؛ فإنها تكون محرمة إن لم ترتبط بالأمر الديني، وتكون مباحة إن ارتبطت به وامتثلت له، والأمثلة التي توضح أهمية الجانب المعنوي في تمثّل الصور المادية كثيرة.
ثم هناك مفهوم "المجتمع السياسي وتطور صوره"، فالمجتمع السياسي ينشأ من عوامل: تواجد أفراد، على رقعة جغرافية، في ظل سلطة تحكمهم، وتطورت صور هذا الحكم من مجرد أعراف حاكمة دون وجود من يقوم على تنفيذها إلا الرقابة الذاتية لكل فرد، إلى رؤساء قبائل أو وجهاء يشرّعون وينفذّون، إلى أن وصلنا لصورة الدولة الحالية، وهي امتازت عن كل الصور السابقة بوجود عناصر "قيمية" أضيفت للعوامل الثلاثة، منها التنظيم القانوني الذي ينظم عمل السلطة، وهذا التنظيم يعني انسلاخ السلطة عن أشخاص الحاكمين، واعتبارهم يعملون لحساب المجتمع، وخضوعهم للقانون على قدم المساواة مع المحكومين، وهو ما اصطُلح على تسميته بنظام الشرعية، وارتبط مولد الدولة بصورتها الحديثة مع نظام الشرعية.
ونظام الشرعية ميّز بين السلطة وبين القائمين عليها، فلا ينبغي لحاكم أن يتصور أنه مالك للسلطة السياسية، بل هو يباشر مظاهرها لحساب المجتمع. ولو كانت السلطة مرتبطة بالشخص القائم عليها، وجب عليه أن يفي بالتزاماتها كلها، ولطالبه دائنو الدولة بأموالهم منه، وهذا غير حاصل ولن يقبله صاحب السلطة، فلا يستقيم انتفاعه بخيرها وتحميل المجتمع أعبائها، كما يجري ببعض دول العالم الثالث.
كما نشأ عنصر قيمي آخر، وهو انفراد الدولة بإصدار القرار السياسي في الداخل ورفض الامتثال لأي سلطة خارجية إلا بإرادتها، ويعبّر عنه بـ"السيادة"، وهو مفهوم كان يتصل بالحاكم منذ قرون، ثم استقر الحال لارتباطه بالدولة ككل لا بأشخاص القائمين عليها.
وتنتفي السيادة بتدخل الغير في الشؤون الداخلية للدولة، كدعم طرف سياسي مقابل طرف آخر، أو توجيه نظام الحكم عبر الأموال أو التهديد بالقوة، وغير ذلك من صور الإكراه الواقعة على الدول، أو صور المنح الموجّهة لجماعة الحكم.
وآخر العناصر القيمية، مرتبط بالتجانس بين أفراد المجتمع على أساس الوعي بالمصالح المشتركة، وأما قيام بعض السلطات بإثارة النعرات والخلافات السياسية أو الدينية بين المختلفين لضمان البقاء في الحكم لأطول فترة، فإنه ينزع عن السلطة صفتيْ الرشد والسعي لتحقيق مصلحة الجماعة السياسية، ومن ثم يتعيّن عزلها وانفساخ التعاقد الرضائي بين الطرفين لعدم رعاية مصلحة المجتمع ولُحْمَته وسِلْمه الاجتماعي.
ترتّب على ذلك الإطار السابق كله وجود وظيفتين سياسيتين للدولة، هما وظيفتا التشريع والتنفيذ، ووظيفتان مهمتان لكنهما خارجان عن التوصيف السياسي، وهما القضاء والوظيفة العسكرية. والأخيرة تابعة للمؤسسة السياسية، لا يتجاوز دورها حفظ الأمن والحدود ولا تتدخل في الشأن السياسي، وتمتثل تماما لأصحاب القرار السياسي، وفي بعض الدول تخرج عن نطاق دورها لتحيل البلد إلى بؤرة للفشل الإداري، وتتغير العقيدة القتالية لتصبح عقيدة اقتصادية، لدرجة جعل تأدية الخدمة الإلزامية - وهي عمل شريف - في بيع السلع الغذائية وتنظيم الحفلات والاهتمام بالصناعة المدنية على حساب الصناعة العسكرية.
هذا الانحراف الوارد في أي وظيفة أو مؤسسة داخل البلد، يرتد إصلاحه لمبدأ الشرعية السابق بالإضافة لمبدأي سيادة الأمة والفصل بين السلطات، فسيادة الأمة عبر تمثيلها برلمانيا لتؤدي وظيفتيْ التشريع والرقابة، وبعض زعماء العالم الثالث يرفضونهما، حتى رأينا أحدهم يوبخ ممثلا للأمة لأنه طالبه بزيادة أجور المعلمين، ورأيناه يطالب أجهزة الدولة والمواطنين بعدم الحديث في موضوع يتعلق بجزء استراتيجي من إقليم الدولة لا يجوز التنازل عنه.
ومبدأ الفصل بين السلطات، لأن السلطة قوة، والقوة لا توقفها إلا قوة مثلها، فلا يجوز لهيئة أن تحتوي غيرها أو تطغى عليها أو تملك من السلطات ما يجعلها تؤثر فيها، وإذا اجتمعت السلطات كلها في يد شخص واحد، فلا حاضر لهذا البلد لأن حاكمها سيفسد ويستبد بالضرورة، إذ السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
ثم هناك صورة أخرى لإحداث التوازن في المجتمع عبر مؤسسات سياسية غير رسمية تتدافع مع المؤسسات السياسية الرسمية، كالأحزاب والنقابات المهنية، ولا بد من ترك مناخ من الحرية يسمح بعرض الآراء المختلفة، وضمان تمثيل الفئات داخل المجتمع، وإمكانية تداول السلطة داخله، وتساوي المواطنين جميعا أمام القانون دون تمييز بسبب دين أو عِرْق أو نوع، وضمان نزاهة العمليات الانتخابية من أصغر وحدة إدارية حتى رأس السلطة التنفيذية في أي دولة.
هذا حديث سريع عن الدولة يغنيك عن إطالة البحث في مفهومها لمدة قد تصل عند البعض إلى خمسين سنة، ويمكنك أن تدرسها بشكل موسع إذا توجهت إلى أحد أماكن تدريس العلوم السياسية، لتستثمر وقتك في الاتجاه الصحيح، وتنقذ بني وطنك إذا صادف وانسللت في لحظة غفلة وأصبحت كبير موظفيهم العموميين.
شريف أيمن