(1)
محددات منهجية
تقييم منجزات ثورة ليس أمرا يسيرا، خاصة إذا كان المشككون في كونها ثورة هم الأعلى صوتا، والأقدر على تحقير المنجز الثوري الذي يسير رغم قلته على غير هواهم. ولكن قبل التقييم أو محاولة التقييم؛ لا بد من بعض الترتيبات المنهجية، منها أولا تجاوز محقري الثورة.
محقرو الثورة صنفان
الأول يعاني من تكلس نظري، إذ قرأ بعض الورقات عن الثورات فظن أن هناك خطة واحدة لكل الثورات، فإن اختلفت الثورة عن النموذج بقي النموذج وفقدت الثورة صفتها، وصارت في أفضل الحالات انتفاضة أو هوجة. هذا الصنف متمسك بالنماذج النظرية وعقله مفارق لواقعه، ولا يمكنه أن يرى للثورة أي منجز؛ لأنه جاء من خارج الخطة التي يحفظها. ولذلك، فإن هذا الصنف يرتاح بتفسير الوقائع الجارية بنظرية المؤامرة، إذ تنقذ نموذجه النظري وتخفف عنه عبء الإيمان بالمستقبل.
الثاني به غباء طفولي جشع، لا يفهم حركة التاريخ، إذ أراد أن يقوم ذات صباح فيجد تونس قد صارت مثل سويسرا أو أفضل، متجاهلا كل التاريخ الذي مرت به سويسرا وكل بلدان الديمقراطيات المزدهرة في الغرب؛ قبل أن تصير إلى ما صارت إليه في لحظتها الراهنة.
الثورة حصلت وأضافت نموذجا ثوريا إلى النماذج القديمة، بل علامة ثوريتها الأجلّ هي أنها ليست على نموذج حصل سابقا
لذلك، فإن أي تقييم لمنجزات الثورة يجب أن يبتعد منهجيا عن هذين النمطين من التفكير. فالثورة حصلت وأضافت نموذجا ثوريا إلى النماذج القديمة، بل علامة ثوريتها الأجلّ هي أنها ليست على نموذج حصل سابقا. بل هي قامت ضد النماذج المكتوبة، وأصحاب النماذج الذين ظلوا لدهر طويل ينتظرون نضوج شروط موضوعية لثورة فيقودوها، فأفلتت منهم وقادتهم، بل همشتهم.
كما أنها، ومهما تبدو متأنية أو مترددة في تحقيق مطالبها، فإنها تتقدم في جسد النظام القديم. ومهما كانت الخيبات التي تعتري مسار تقدمها، فإنه لا يمكن الإنكار أن النظام السياسي الذي ثارت عليه قد عجز عن العودة، رغم كل ما يملك من أسباب العودة. إذن، وجب أن نبدأ من موقع مختلف وبعقل آخر؛ لا ينكر الثورة ولا يستعجل مكاسبه منها. فأين نكون لنحسن القراءة؟
مهما كانت الخيبات التي تعتري مسار تقدم الثورة، فإنه لا يمكن الإنكار أن النظام السياسي الذي ثارت عليه قد عجز عن العودة
القراءة التاريخية الضرورية
الموقع إزاء الثورة هو بالضرورة تموقع إزاء الفائدة المباشرة، لذلك فإنه لا يمكن الخروج في القراءة عن محددات الصراع الاجتماعي بين القوى الاجتماعية المختلفة على مخرجات الثورة. هنا نقرأ مواقف النخب المنظمة حزبيا ونقابيا في مواجهة/ مطاوعة الثورة، وفي مواجهة/ مطاوعة النظام القديم. من هذه الزاوية أيضا؛ نفهم حركة النظام القديم في إنقاذ وجوده، ثم في ردته عبر تحالفات مصطنعة ودائمة بحسب لحظة القوة المتاحة.
قد نجد في نهاية هذا التقييم القدرة على وصف بعض المواقف بالخيانة، ولكن ليس القصد إصدار أحكام، بل قراءة المألات الواقعية من خلال المواقف التي حصلت. لذلك، فإننا نحتاج لوضع مقياس موضوعي لتقييم المنجز الثوري. ونرى أن هذا المقياس يقوم على النظر في النتائج الحاصلة على ضوء مطالب الثورة؛ لأن ادعاء تملك الثورة لا يعني إنجازها أو تحقيق مطالبها، فالموقف الاجتماعي على الأرض ليس الموقف الخطابي في الاعتصامات.
في تونس يتهم جميع الفاعلين جميع الفاعلين بأنهم لم يقودوا الثورة ولم يشاركوا فيها، حتى ليسأل المرء نفسه، لفرط التنافي القاطع: من أنجز الثورة إذن؟ لقد أهدر جهد كثير وبدد وقت طويل في محاولة امتلاك قيادة ما أنجز منذ 17 كانون الأول/ ديسمبر2010 إلى آذار/ مارس 2011. لذلك، فإن أي تقييم يجب أن يخرج من هذه الزاوية المغلقة للنقاش. لقد شارك كثيرون وبدرجات متفاوتة ومن مواقع مختلفة، ولا يمكن إنكار الجهد، لكن تحويل ذلك الجهد إلى سبب لامتلاك ما بعد الثورة وقيادتها؛ ليس من الثورة، وإنما من تصريف فعلها في المجتمع. وهذا التصريف مرتبط بعوامل كثيرة؛ منها المشاركة في الثورة، ومنها المشاركة في النضال قبلها، ومنها القدرة على الفعل بعدها، أي بعد أن مكنت الجميع من سلاح الحرية الفعال ضد النظام السابق. في لحظة من لحظات تقدم الفعل الثوري؛ لم يعد من حق أحد أن يجيّر لحظة الثورة لصالحه كما لو أنها أصل تجاري خاص. وإذ يستوي الفاعلون المؤمنون بالثورة، فإن التقييم ينصب على أدوارهم بحسب قربهم من مطالب الثورة فهي المرجع. مفتاح التقييم الأسلم هو من خدم مطالب الثورة أكثر، وبماذا خدمها بالتحديد.. هذا فيما أرى مقياس موضوعي ننطلق منه للحكم على ما حصل، وتوقع ما قد يحصل.
لم يعد من حق أحد أن يجيّر لحظة الثورة لصالحه كما لو أنها أصل تجاري خاص. إذ يستوي الفاعلون المؤمنون بالثورة
لنتذكر مطالب الثورة
لا يخفى على أحد أن المطالب المادية العاجلة للثورة كانت وضع أسس سليمة ودائمة للقضاء على الفقر والتهميش الجهوي والفئوي، وبناء مشروع اقتصادي واجتماعي على أسس العدل والمساواة بين الجهات والأفراد. وكان هذا المشروع يقتضي إعادة التفكير في الوضع الذي أدى إلى الثورة ومعالجة أسبابه، بما يعني في المحصلة كسر شوكة المستفيدين من الوضع السابق، وخلق وضع يمنعهم من التأثير على المستقبل سواء بنفوذهم المالي أو السياسي. والمرور إلى بناء البلد بقوى جديدة تكون من رحم الثورة، أي من المجتمع العميق الذي أنجزها.
لم يكن هذا المطلب متناقضا، بل لعله كان في سياق متجانس مع مطالب الحرية السياسية والإعلامية المتخلدة من زمن ما قبل الثورة، والتي ناضلت من أجلها نخب كثيرة ودفعت ضرائب غالية. وهذه المطالب كانت مشروطة بإعادة بناء البلد بناء قانونا؛ يضمن السيادة والاستقلال على الثروات الوطنية وعلى القرار الاقتصادي في الداخل والخارج.
لم تكن هذه المطالب مبلورة في لائحة قيادة الثورة؛ لأن الثورة كانت بلا قيادة واضحة منذ البداية، وكانت لوائحها عفوية تبلورت في الشارع، وقد أجملها في صيغة بليغة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولكن مجمل المطالب التي ستتبلور بوضوح بعد سقوط رأس النظام، هي مطالب المجتمع المتراكمة منذ عقود الديكتاتورية، وقد حركتها الثورة ووضعتها على طاولة العمل السياسي لمن قفز إلى موقع القيادة في الحكومات وفي الأحزاب الحاكمة والمعارضة.
الصورة الممكنة أو مفاتيح التقييم
لدينا مطالب واضحة، ولدينا فاعلون بأسمائهم ومواقعهم.. فمن منهم خدم المطالب لتكون مستقبلا ناجزا لبلد في حاجة إلى تغيير حقيقي وعميق؟
قلت أعلاه إنني لست معنيا بإصدار أحكام. فمن السهل إطلاق النار على كل الفاعلين وتحقير مساهماتهم، وصعود ربوة النقاء الثوري؛ للقول بأن النخب خانت الثورة، ولكن من الخطأ أيضا مجاملة الفاعلين والقول: بورك جهدهم، ثم القفز فوق عوائق تحقيق المطالب الكامنة في النخبة، فعلا لا في الشارع، وإن كان الشارع نفسه متكالبا على غنائمه في غياب عقلنة النخب لنزعات الشارع الفردانية.
لم يتحقق الكثير، ولكن المنجز لا يساوي صفرا. هناك مكاسب فعلية أهمها الحرية، لكن من الحرية طرح سؤال عن جدوى الحرية في غياب التنمية، فمن أين تبدأ التنمية لتتكامل مسارات تحقيق مطالب الثورة؟
هناك حديث ضروري عن دور النخب وعن عقلانيتها، أو بصيغة أخرى ترجمة الخطاب السياسي في ارتباطه بمطالب الثورة.
في خلاصة أولى، نعتزم تفكيكها في مقالات لاحقة في شهر الثورة، نجد أن النخب المتحزبة والنقابية والمثقفين من الوسط الاكاديمي، إلا قلة، لم تعمل على تفكيك النظام السياسي والاجتماعي، بل أنقذته بسرعة بالعمل تحت سقفه المتدني، خالطة عن عمد بين النظام وبين الدولة، جاعلة من هذا الخلط إيديولوجيا (بداء من لجنة بن عاشور التي أمر بها المخلوع نفسه، إلى وضع جدول الانتخابات السريعة تحت إشراف رجال النظام القديم).
لقد كانت فكرة الحفاظ على الدولة (وفي الحقيقة على النظام) ذريعة لقطع الطريق على كل تغيير في العمق، وبدأت بذلك التبريرات لإعادة إنتاج النظام؛ بإضافة مواقع جديدة للنخب التي كانت خارجه حتى عشية الثورة. فأخذ مكان في النظام هو عندها مكان في الدولة، وإلى الآن لا تريد هذه النخب التفريق بين الدولة والنظام؛ لأنه تفريق مكلف سياسيا فهو باب خروجها من النظام ومن منافعه (هذا التفريق كامن في الباب السابع من الدستور) الذي تؤجل النخب إياها تنفيذه في الواقع.
لقد كان هذا الخلط طريقا لخيانة الثورة ومطالبها، وستلعب النخب المنظمة نقابيا، وهي نخب الطبقة الوسطى والوسطى العليا، دورا فعالا في هذه الخيانة الاجتماعية، فتحول ثورة المهمشين إلى مطلبية مجحفة. وكل مغنم لهذه الفئة كان يضاعف حرمان المهمشين الذين بقوا في الدولة، ولكن خارج النظام، ولا يمكنهم حتى الآن دخوله لأنهم، رغم إنجازهم للثورة، عجزوا عن الانتظام الاجتماعي القادر على افتكاك حق مع النقابات، ومع نخب الأحزاب التي تتوزع المغانم باسم الحرية؛ متناسية من وهبها حرياتها.
لقد كانت إحدى وسائل الطبقة الوسطى (الخائنة) للحفاظ على مكاسبها؛ هي طرح الصراعات المغلوطة التي عاشت منها قبل الثورة. فالصراع الهوياتي لم يكن على جدول الثورة، وكل القضايا التي تفرعت منه هي مشاغل مصطنعة لتتيه الثورة عن مطالبها، وينصرف المهمشون إلى حلول فردية مريحة للنخب من قبيل الحرقة (الهجرة السرية). لقد كان الإرهاب نفسه يقدم حلولا/ ذرائع لهذه الفئات، لتحول الخوف العام إلى مطالب خاصة، وليس آخرها قانون زجر الاعتداء على الأمنيين؛ الذين، وللغرابة تمتعوا بأكبر زيادات حصلت لفئة الطبقة الوسطى في تاريخ المؤسسة.
سيكون السؤال الموجه إلى هذه الفئات إذن: ماذا طلبت من الثورة؟ والإجابة ستحدد الموقع منها، ما قد يسمح بتبين مسارات التموقع القادم، وبناء التحالفات في مسيرة ثورة بدأت ولم تكتمل بعد.