من الأخطاء الكبرى للتيار السياسي الإسلامي؛ أنه حين قرر أن يعتمد مقاربة التفاعل مع المجتمع والدولة والناس، عبر المشاركة والحركة والتواصل المفتوح من خلال كل الوسائل المفتوحة.. حين قرر ذلك، كان ينظر للموضوع بعينين: العين الأولى على الدولة التي رفضت الاعتراف القانوني به، ولعل هذه العين كانت أكثر اتساعا، والعين الثانية كانت على أرض الموضوع نفسه. فالعمل النقابي مثلا شهد تطورا ملحوظا في الحركة والتغيير، فقدم الخدمات الصحية والاجتماعية وغيرها، وأقام الندوات والفاعليات، وباتت النقابات صوت من لا صوت له؛ ليُسمع من شاء ما يشاء (تيارات إيديولوجية مخاصمة/ دولة/ أجهزة أمنية..)، لكنه ترك أهم شيء في العمل النقابي ذاته، مثل معالجة المشاكل الفردية والجماعية الناجمة عن مخالفة أحكام القوانين، أو المفاوضة وتوقيع عقود العمل للأعضاء، أو تحسين ظروف العمل وشروطة.. إلخ.
الموضوع خرج عن أرض الموضوع - كما يقولون - وسينسحب ذلك على كل مجالات الحركة في قلب المجتمع (برلمان، محليات، أندية، اتحادات طلابية.. إلخ).. إن يكن من أمر، فعلينا أن نقول إذن إن تجربة العمل العام للتيار السياسي الإسلامي شابتها عدد من الأخطاء، بعضها كان كبيرا للأسف، وتبدى بوضوح في سعي السلطة لتدمير أي مكان يستحوذ عليه هذا التيار، وهو ما حدث بالفعل. لكن الشيء بالشيء يذكر.. فما هو هذا الشيء الذي يجب ان يذكر مع هذا الشيء؟ إنه أهم مجالات الإصلاح والنهوض على الإطلاق في كل العصور:
التعليم.
في كل الانعطافات التاريخية لمصر الحديثة، كان التعليم ومركزيته الكاملة في قلب أي مشروع كبير للتغيير والنهوض. ولكن - بكل أسف - لم يكن أبدا هدفه الأسمى الذي يُرتجى منه؛ الإنسان وبناءه والارتقاء بوعيه وإدراكه؛ من حيث أنه هو الرقم الأهم والدائم في أي مقاربة لبدء مشروع إصلاح حقيقي. فقد قام محمد علي بنهضة تعليمية جبارة، لكن الهدف لم يكن الإنسان.. كان الهدف قوته العسكرية، وتحقيق مشروعه في السيطرة والنفوذ الإقليمي، بل والدولي.
قامت حركة يوليو بما يمكن - تجاوزا - تسميته "نهضة تعليمية"، من حيث التوسع والانتشار، لكن الهدف أيضا كان خارج الموضوع، فساهمت بوعي أو بدون وعي في تحويله إلى عائق كبير ومعوّق - نعم معوق - في طريق الإصلاح والنهضة، ذلك أن البكباشي كان يريد صناعة طبقة اجتماعية تدين له وتتبعه؛ أمام قوة صديقه عامر في الجيش، فتوسع في تطبيق التعليم المجاني دون تخطيط وإعداد، فكانت الطامة التي أخرجت مصر من التصنيف العالمي (دعم التنافسية في مجال التعليم) كما صرح د. طارق شوقي وزير التعليم.
لكن السؤال الأهم هنا عن دور التيار السياسي الإسلامي في مسألة التعليم، وهو التيار الذي يعتبر الإنسان ووعيه بمثابة مركز الدائرة في كل مساعيه على الإطلاق! الإجابة مؤسفة، وعلى مدى 40 عاما من الحركة والانتشار لهذا التيار؛ ستصدمنا الحقيقة حين نعرف أن عدد الأميين في مصر، وفق آخر إحصاء رسمي، هو 20 مليون أمي لا يعرفون القراءة والكتابة. والأسوأ والأكثر مرارة؛ هو ضحالة المستوى التعليمي للمتخرجين، خاصة من التعليم المتوسط، بل والجامعي، ناهيك عن التربية التي هي صاحبة التعليم وأخته الرضيعة، كما يقال.. نعم، أنشئت مدارس عديدة، لكنها أيضا للأسف - والأسف هنا محمول بالدهشة الغاضبة - لم تكن من أجل التعليم وهدفه الأسمى (والتاريخ يعيد نفسه عند من لا يعرفه).. كانت من أجل التغلغل الاجتماعي، بل وفي طبقات اجتماعية بعينها. فلم يمثل التعليم مشروعا كاملا متكاملا للإسلاميين؛ توضع له الخطط، وترصد عنه الإحصاءات، ويغطي الوطن كله، خاصة في القرى والنجوع وأصقاع الصعيد البعيد.
وعلى الرغم من أن رواد الإصلاح الأوائل أدركوا أن قصة النهضة ليس لها إلا بطل واحد، وهو الإنسان، إلا أن غياب الوعي التاريخي بتجربة السابقين؛ حكم على اللاحقين بالوقوع في براثن الخطأ. وما التعليم والوعي والتربية والأخلاق إلا الوسيلة العظمى للهدف الأعظم، وهو "مجتمع الوعي والقوة" الذي ينتظم في كيانات وجماعات وتيارات تحقق إصلاحات كثيرة جدا، ليس أهمها محاصرة السلطة ومراقبة ومحاسبة الحاكم الذي تسول له نفسه منطق "ما أريكم إلا ما أرى"، ولكن، وهذا هو الأهم، للتأسيس لحياة الرفاة والكرامة والعزة للإنسان في مجتمع الوعي والقوة والمساواة.
أكتب هذا الكلام وأنا اتذكر وأتمثل تجربة فريدة كاسم صاحبها (محمد فريد)؛ أهم زعماء الإصلاح في العصر الحديث الذي رحل في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1919م. وطوال هذه الفترة الخطيرة من تاريخنا الحديث، تميزت كل حركات الإصلاح والنهوض بإغفالها لرقم من أهم الأرقام في معادلة الإصلاح - كما ذكرت - إن لم يكن هو كل الأرقام، وهو الشعب (الناس العاديون).. بؤساء القرى والنجوع والأرياف والحواضر.. فتم إهمالهم وإغفالهم على نحو يدعوك للدهشة الداهشة. وحتى من انتبه من رواد الإصلاح لهذه الثغرة الكبرى (التعليم)، لم يُفعّل هذا الانتباه على الأرض بالحجم الذي ينبغي حدوثه، سواء لقصر عمره، أو لضيق الطريق أمامه، أو لضعف الأعوان وقلة الأنصار من حوله.
وأنا لا أود الكتابة عن حياة محمد فريد؛ المفكر والسياسي والرائد الاجتماعي، لكني أريد أن أشير إلى تجربة مهمة لم ينتبه إليها كثير منا، وهي تجربة "مدارس الشعب" لمكافحة
الأمية بكل أنواعها، وهي المدارس التي كان يُعلِم فيها محمد فريد وأنصاره (عبد العزيز جاويش وأحمد لطفي وعمر لطفي) العمال وأرباب الحرف الصغيرة والفلاحين.. استمع إليه وهو يقول في الاجتماع السنوى للحزب الوطني: "لا سبيل إلى النهوض بالوطن إلا بنشر مبادئ التعليم بين هذه الطبقات التعسة، وتأسيس المكاتب الليلية، والتبرع بالمال والقليل من الوقت لإلقاء الدروس والمحاضرات النافعة في هذه المدارس والجمعيات؛ حتى يترقى الإنسان المصري، ويدرك أن له حقا في أن يعيش عيشة كريمة لا كعيشة البهائم".. تذكروا جيدا جملة "عيش البهائم" هذه؟!
محمد فريد الذي ولد في 20/1/1868م وتوفي 15/11/1919م؛ كان مفكرا قبل أن يكون سياسيا وزعيما لحزب سياسي. كتب عن تاريخ محمد علي وعن تاريخ الدولة العثمانية وهو في السابعة والعشرين من عمره!! وله كتاب عن تاريخ الدولة الرومانية!! بذر في فترة زعامته من أفكار التقدم السياسي والاجتماعي والفكري؛ ما لم يبذره أحد.. وقد شرّق وغرّب مدافعا عن وطنه، داعيا ومبشرا بالعدل الاجتماعي. وهو أحد أهم الرجال الذين حضّروا لثورة 1919م، كما قال عنه فتحي رضوان..
ولعل أهم ما نتذاكره الأن في سيرة محمد فريد؛ هي تلك الفكرة العظيمة (مدارس الشعب)، ليتمثل التيار الإسلامي العريض تلك التجربة، فيدخل البيت من بابه.. بيت الإصلاح الذي لا يُدخل إلا من باب المجتمع القوي والناس العاديين، تعليما وتثقيفا، وارتقاء بالوعي والسلوك والأخلاق، شرط الأمن والأمان الاجتماعي والقومي. وقتها لن يجرؤ مستبد على أن يصفه بأعداء الشعب، فبالوعي والتعليم سيعرف الشعب من هو العدو ومن هو الصديق.