هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ثمة ثلاث محطات كبرى يمكن اعتبارها الخيط الناظم لما نسميه هنا ب"زمن الإعلام":
- الأول ويكمن، منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي على وجه التحديد، في الطفرة الكبرى التي عاشها قطاع الإعلام والمعلومات والاتصال، ليس فقط بجانب الأدوات والأعتدة والتجهيزات، بل وأيضا بزاوية البرامج والتطبيقات والمضامين.
ولعل العنصر المؤسس لهذه الطفرة، إنما التحولات الجوهرية التي طالت بنية المعلومة وبنيانها، وكان من تداعياتها المباشرة أن خضع القطاع برمته لحركية لا تزال تموجاتها جارية لحد الآن، على مستوى مظهر القطاع كما على مستوى جوهره.
لقد كنا، لحين أواسط ثمانينات القرن الماضي، بإزاء ثلاثة حقول مستقلة، وإلى حد كبير، عن بعضها البعض: حقل المعلومة الصرفة، حيث مجال الأخبار ووكالات الأنباء والجرائد الورقية والمتلفزة والإذاعية ووسائل الإعلام، ثم حقل الاتصال، حيث الإشهار والتسويق، وكل ما له صلة باستقطاب المستهلك أو المتلقي، ثم حقل ما يسمى بالثقافة الجماهيرية، حيث الأفلام، وإنتاجات الأدب وسلسلات التلفزيون بكل أشكالها وأنماطها وتوجهاتها.
هذه الحقول الثلاثة لم تعد تتمتع بالاستقلال الذاتي الذي عهدناه بها لعقود طويلة، بل اندمجت في بعضها البعض في حقل واحد، اندغمت بصلبه وسائل الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي، ثم المعطيات والبيانات المعلوماتية، ثم أدوات الاتصال من كوابل هرتزية، وحوامل ألياف بصرية، وأقمار صناعية، ومبدلات اتصالاتية وبرامج للبحث والتخزين والتوزيع، وما سوى ذلك.
نتيجة لذلك، لم تعد المعلومة تحمل المميزات التقليدية التي لازمتها لعقود طويلة مضت، بل باتت مكمن صفات جديدة لم نعهد مثيلا لها من ذي قبل، وأولى هذه الصفات صفة الوفرة. فالمجتمعات البشرية عاشت ولقرون عدة، حالات كبيرة من ندرة المعلومات، بلغت درجة تم الربط في ظلها بين المعلومة والحرية، فقيل بأن عدم توفر المعلومة هو بالمحصلة مؤشر لغياب الحرية، وأن توفرها وترويجها وتقاسمها على نطاق واسع، هو دليل حرية بامتياز.
الصفة الثانية الملازمة للمعلومة، خلال الخمسة عقود الأخيرة، وتكمن في السرعة. فالمعلومات كانت تتنقل فيما مضى من أزمان ببطء شديد ، أما اليوم فإنها تنتقل بوتائر مرتفعة، لا بل وتنتقل بسرعة لا تضاهيها في ذلك إلا سرعة الضوء.
المعلومة باتت "تعاش" في زمن قياسي، أو فيما يسمى بـ"الزمن الواقعي"، حيث ينقل الحدث بالمباشر الحي، عبر التلفزيونات المقتنية للأقمار الصناعية، أو عبر الشبكات الرقمية، من خلال شبكة الإنترنيت أو بواسطة الاتصالات الخليوية النقالة، أو بما سواها.
أما الصفة الثالثة التي أضحت لصيقة بالمعلومة، فتتمثل في الطبيعة السلعية التي أضفيت عليها في الشكل وفي المضمون. المعلومة بموجب هذا الواقع، باتت تباع وتشترى، وباتت لها تكاليف من المفروض احتسابها في تحديد السعر، وباتت نتاج ذلك، مكمن عرض وطلب بين من يتوفر عليها، وبين من يبدي الرغبة في اقتنائها والإفادة منها.
كل هذه العناصر تفاعلت ولا تزال تتفاعل في صلب حقل إعلامي واتصالاتي، يعيش على وقع ثورة تكنولوجية، تدلل الوقائع على أنها لا تزال إلا في بداياتها وإرهاصاتها الأولى، وتأثيراتها على المستوى الاقتصادي والصناعي والاجتماعي والثقافي، لا تزال مؤشراتها في طور التشكل.
- المعطى الثاني ويكمن في القول بأن هذه الطفرات التكنولوجية لم تنحصر تداعياتها في ازدياد منسوب إنتاج وتخزين وتوزيع واستهلاك المعلومات، وعلى نطاق كوني، بل تزامنت وثلاث طفرات أخرى، ليست من ذات الطبيعة، لكن كان لها ولا يزال وقع قوي على مسارات "النظام الإعلامي" كما نعيشه اليوم:
+ الأولى وتتمحور حول تزايد مد عولمة الأسواق والتيارات المادية واللامادية، والتي تعدى مداها الحدود واللوائح الوطنية، وكان من تبعاتها انتفاء الحاجز الجغرافي الذي كان وإلى حين عهد قريب، يحد من حركة المجموعات الإعلامية، ويقف بوجه استراتيجياتها في التوسع، أو في التحالف على نطاق واسع.
+ الطفرة الثانية وتتمثل في التحولات التي طالت شكل وطبيعة الرأسمالية نفسها، ونزوعها التدريجي لولوج عالم الإعلام والمعلومات والاتصال، في سياق ما بات يصطلح عليه بـ"الرأسمالية المعلوماتية".
إن ظاهرتي الاقتصاد الجديد، ثم الإعلام الجديد اللتان شاعتا من مدة، لا تعبران فقط عن التموجات العميقة التي يعيشها الإعلام، بل وتعبران أيضا عن المد المتزايد للرأسمال المالي والصناعي والتجاري بجهة ولوج هذا القطاع، وتسريع وتيرة إنتاج القيمة من بين ظهرانيه بالزمن كما بالمكان.
+ أما المظهر الثالث لهذه الطفرة فيتمثل في الانسحاب التدريجي للدولة وللقطاع العام عموما، ليس فقط من القطاعات الإنتاجية التقليدية المباشرة، بل وكذلك من القطاعات الإعلامية "السيادية"، لفائدة فاعلين خواص لا تتماهى استراتيجياتهم دائما مع الدولة، بقدر ما تتماهى مع مجالات فعل مخوصصة، محررة أسواقها، غير مقننة ولا خاضعة لسلطة المستوى السياسي والتشريعي، والذي من شأنه، ومن صلاحياته أيضا، توجيه الأسواق، وتحديد قواعد اللعبة بين الفاعلين من بين أضلعها.
بالتالي، فقد بات مجال الإعلام والاتصال اليوم، في ظل العولمة الليبرالية وتقوي منطق السوق خصوصا، بات مؤطرا ومنظوما من لدن مجموعات إعلامية كبرى تحمل ميزتان اثنتان:
الأولى أنها مجموعات تسيطر على كل ما هو مكتوب ومسموع ومرئي، من خلال سيطرتها على كل الحوامل المرتبطة بهم، من صحافة مكتوبة وإذاعات وتلفزيونات هرتزية وكوابل وأقمار صناعية وبرامج ومحركات بحث بالشبكات الرقمية وغيرها.
الثانية أنها مجموعات عالمية، كونية وشمولية، العالم برمته فضاء لنشاطها وليست الأسواق الوطنية أو المحلية، كما كان عليه الحال بفترات الندرة، أي بفترات ما قبل الثورة الرقمية.
+ العنصر الثالث ويكمن، إضافة إلى عنصري الطفرة التكنولوجية وعولمة وسائل الإعلام والاتصال المتحدث فيهما من قبل، في القول بأن هذه الطفرات قد غيرت من مواقع مختلف الفاعلين، اقتصاديين وماليين ومؤسساتيين، إما بزاوية تقوية المواقع إياها، أو بزاوية إضعافها، أو من خلال الدفع بجهة إعادة النظر في طبيعة علاقات الفاعلين إياهم ببعضهم البعض، فرادى ومجموعات على حد سواء.
فالقطاع الخاص، ثم رأس المال، ثم السوق تقوى وتوسع مجاله، في حين أن مجال الدولة والتقنين تراجع وتقلص. ثم إن مكانة الفرد تقوت إلى حد بعيد، وبات بظل الثورة الرقمية وعولمة وسائل الإعلام والاتصال ليس فقط مستهلكا للمعلومات ووسائل الإعلام، بل أضحى منتجا لبعض من مضامينها ومحتوياتها بسياق ما بات يصطلح عليه ب"الإعلام المواطن".
التقنية هنا لا تعير كبير اهتمام لقيمة المعلومة، بقدر ما تهتم بحجمها عندما تبرز، ثم عندما تروج، ثم عندما تصل للمتلقي، والذي يقوم بدوره بإعادة ضخها في البنية جزئيا أو بالكامل.