لا أحد بمستطاعه المزايدة كثيرا على ما حملته ثورة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال من مزايا كبرى، من خلال توفير مصادر للمعلومات والمعرفة على نطاق غير مسبوق في التاريخ، ومن خلال الوعود التي راهنت عليها ذات الثورة ل"دمقرطة" العلاقات بين الأفراد والجماعات بكل بقاع العالم، وتسهيل سبل إعلامهم واتصالهم وتواصلهم. بيد أنها أفرزت بالآن ذاته، تحديات جيو/سياسية كبرى ليس أخفها وطأة ظواهر "الجريمة الافتراضية" وتوظيف الشبكات والبرامج الرقمية للتجسس على حيات الناس الخاصة والعامة، أو الاتكاء عليها لتأجيج المنافسات والتطاحنات الاقتصادية والتجارية والمالية، ناهيك عن كونها قد تحولت إلى أداة للرصد والتأثير الدبلوماسي والثقافي في العلاقات بين الدول، صغيرها كما كبيرها على حد سواء.
إن شبكة الإنترنيت لم تعد "مجالا" خاصا حكرا على أقلية تتوفر لديها الكفاءة العلمية والتقنية لتشغيلها وصيانتها كما كان الأمر من ذي قبل، بل أضحت "مجالا" عاما غدا للبعد التقني في صلبه تداعيات وامتدادات سياسية واستراتيجية، ناهيك عن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تجرها ذات الشبكة من خلفها، أو تكون هي ذاتها مصدر إفرازها وأداة لتوسيع نطاقها.
معنى هذا أن الشبكة إياها لم تعد "مصب" رهانات جيو/سياسية واستراتيجية كان بالإمكان حصر تمظهراتها في الزمن والمكان، طيلة فترة النشأة والتطور، بل غدت هي ذاتها محورا لرهانات جديدة غير مسبوقة بمقياس التأثير والتحكم. إنها جعلت العالم، كل العالم، "عاريا" أمام التقنية، غير مدرك لتموجاتها المبطنة والظاهرة، وغير قادر على تمثل مخاطرها الآنية والقادمة.
بالتالي، فإن قراءة دور ووظيفة شبكة الإنترنيت في العلاقات الدولية، بالارتكاز على البعد الجيو/سياسي الصرف، إنما آيته التوقف عند نقطتين أساسيتين سيكون من شأنهما تشكيل مفاصل العلاقات بين الدول، ومن ثمة بين الأفراد والجماعات:
- النقطة الأولى لأن الجيو/سياسة تهتم بالتحديد بتحليل ودراسة صراعات النفوذ والسلطة في فضاء معين، تحلل دينامياته الكبرى، تقف عند تباين استراتيجيات وتمثلات الفاعلين من بين ظهرانيه، وتعمل على تثمين المصالح الحيوية التي تخترقه أو تتفاعل بداخله.
- النقطة الثانية لأن شبكة الإنترنيت لا تقتصر (فما بالك أن ينحصر مداها) في بعدها التقني الخالص (أعني الملازم لولادتها وتموجاتها)، بل تتعدى ذلك لتطال "الفضاء" الذي أفرزته وتفعل فيه، حيث "تتشكل التبادلات اللامادية، العابرة للتراب بين مواطني الأمم المختلفة بسرعة آنية تقوض مفهوم المسافة وتتحداه".
المسألة في النقطتين معا مسألة تمثلات بامتياز، على اعتبار أن هذه الأخيرة إنما هي بناء وبنيان متراص، يرتكز على امتلاك وتملك لمجال مادي وافتراضي في الآن معا، بغاية التأثير المباشر أو تجنيد استراتيجيات الفاعلين، أفرادا أو جماعات لتجسيد ذات التأثير. ولذلك، فعندما تختار الدول التموقع بهذا الفضاء الافتراضي، فإنما لوعيها وتمثلها لرهان التحكم في المعلومات، والضرورة القصوى لتوجيهه بغرض إدراك هذا المبتغى الاستراتيجي أو ذاك.
إن قوة الردع التقليدية، والتي كانت إلى حين عهد قريب، كافية لضبط موازين القوى، لم تعد لها القدرة العملياتية الكافية لاعتراض تهديد استراتيجي ما هنا أو هناك، لا سيما في ظل توفر التكنولوجيا بتكاليف زهيدة، وإمكانية حصول الأفراد كما المجموعات عليها، ومن ثمة ركوب ناصيتها وتوظيفها لاستهداف هذا الغريم الجيو/سياسي أو ذاك.
بيد أن المفارقة هنا تكمن في أن الدول التي تحتكم على أقوى الشبكات الرقمية (الدول الكبرى تحديدا) هي المعرضة أكثر للتهديدات، وهي القادرة في الآن ذاته على تطوير هذه الشبكات والزيادة من مناعتها، ومن ثمة من قابليتها لاعتراض التهديدات أو إبعادها أو حصر نطاق فعلها وتأثيرها.
ومع ذلك، فإن جنوح الدول للتحكم في أنظمة الإعلام والمعلومات والاتصال (أعتدة وبرامج) لاعتبارات جيو/سياسية واستراتيجية صرفة، قد لا يقتصر على الرفع من مستوى التأمين التقني لذات الأنظمة للحيلولة دون اختراقها أو تدميرها، بل يذهب (لضمان ذات التأمين) لحد مراقبة تيارات تبادل المعلومات بين الأفراد والجماعات، ومن ثمة مطاولة حرياتهم في التعبير والتجاوز على خصوصياتهم الذاتية، وحقهم في سرية تعاملاتهم بالشبكة.
بمقابل ذلك فإن انفجار أحجام المعلومات وسرعة تجميعها ومعالجتها وتخزينها ثم ترويجها، لا يضع الرهانات الجيو/ستراتيجية للدول على المحك فحسب، بل من شأنه تهديد سيادتها أيضا، بحكم الهلامية المتزايدة للحدود الترابية للبلدان، وعلى اعتبار تراجع وتداخل المستويات القانونية "الوطنية" من بين ظهراني "المجال" الافتراضي العابر للحدود والمتجاوز على التشريعات.
ولهذا السبب، يعتبر الخبراء أن القانون السائد بالفضاء الافتراضي ليس قانون هذه الدولة أو تلك، بل هو نتاج احتكاكات السلط والنفوذ فيما بين بعضها البعض، أي نتاج موازين قوى، الغلبة فيه لمن يتحكم في تقنيات ذات الفضاء وأدواته، وله المقدرة على تحديد مساراته في الزمن والمكان.
والشاهد على ذلك أن شركات الإعلام والمعلومات والاتصال الكبرى (جوجل، أمازون، آبل، فايسبوك، ضمن آخرين) قد أضحت من القوة التكنولوجية والاقتصادية والمالية ما تجعلها لا تعير كبير اعتبار للقوانين القائمة، ونادرا ما تقبل بالانصياع لقانون هذه الدولة أو تلك، لحذف مضمون ما أو لسحب معلومات عن هذا المستعمل أو ذاك، اللهم إلا في الدول ذات التشريعات المتشددة، حيث قد تقبل الشركات إياها ببعض التنازل مقابل الحفاظ على تواجدها بهذه الدول، والاحتفاظ بمستعملي شبكاتها وتطبيقاتها...هذا مستوى آخر سنعود له في المقالة المقبلة.