ما يحدث في
إدلب يندرج ضمن السياق الطبيعي لمجرى الأحداث السياسية والعسكرية التي تشهدها المنطقة. فتنظيم الدولة إلى زوال، والكرد يقتربون من بناء دولة الحلم بمساعدة قوى دولية فاعلة مؤثرة. والخوف والرفض التركي لهذه الدولة وللدول الداعمة لها؛ يزداد.
وبالتالي، فإننا نجد إعلان الأركان العامة للجيش التركي الاثنين (9 تشرين الأول/ أكتوبر)، رسميّا، بدء العملية العسكرية في محافظة إدلب السورية يأتي في السياق الطبيعي لهذه الأحداث عموما، كما يأتي في إطار التنفيذ العملي لمناطق خفض التصعيد الرابعة الناتجة عن اجتماع "أستانة 6" خصوصا.
وعليه، فالرابط لا يبدو بعيدا بين العملية العسكرية التركية وتأزم العلاقات بين الجانب التركي والأمريكي. فمن أسباب نجاح لقاءات أستانة؛ تخلي الغرب عن
تركيا، بدءا من حادثة إسقاط الأتراك للطائرة الحربية الروسية، مرورا بموقفه من محاولة الانقلاب، وليس انتهاء بإدارة أمريكا ظهرها للأتراك، سواء من حيث كذبهم في عهد أوباما حول تراجع الكرد لشرق الفرات، أو رفض إدارة ترامب مشاركة الأتراك في معركة الرقة وفق الشروط التركية؛ التي تراها تركيا منطقية ومنسجمة مع الواقع الديمغرافي للمنطقة. فالأتراك دخلوا في لقاءات أستانة مضطرين لا مخيرين، وخاصة بعد أن بات الأمر يهدد أمنهم القومي. وعبّر الرئيس التركي صراحة عن ذلك، عندما أشار إلى "وجود محاولات جادة لتأسيس دولة على طول الحدود الشمالية لسوريا، وأنّه في حال التزمت أنقرة الصمت حيال ذلك، فإنّ تلك المحاولات ستتحقق". فالأتراك، وفق الرئيس التركي، "مضطرون لعرقلة الحزام الإرهابي المراد إنشاؤه من أقصى شرق
سوريا إلى البحر المتوسط، ولا سيما بعد استفتاء كردستان الذي عزّز المخاوف التركية من الحلم القومي الكردي".
وما يدلل على ذلك، حرص الأتراك على عدم الدخول في صراع مسلح مع القوى العسكرية الموجودة في إدلب. فعلى الرغم من إدراج النصرة (
تحرير الشام) على لوائح الإرهاب، إلا أن الأتراك يميزون بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة. فالفصيل الثاني له قاعدة شعبية (بغض النظر عن حجمها)، خلافا للثاني. كما أن الغالبية الساحقة من مقاتلي النصرة سوريون. وترى السياسة التركية أن ثمة إمكانية لتفاهمات سياسية مع تحرير الشام، خلافا لتنظيم الدولة. وما يؤشر على ذلك تغيير الاسم من جبهة النصرة إلى فتح الشام بداية، ثم السعي لتحالف أعرض (هيئة تحرير الشام)، في محاولة للقبول بالمعادلة السورية التي لا تقبل بالقاعدة وما يرتبط بها. كما تخشى تحرير الشام
من نهاية سوداوية تشبه نهاية تنظيم الدولة، ولا سيما أنّ فصائل عسكرية كثيرة في الداخل تعاديها.
ويدلل دخول المراقبين الأتراك لسوريا، بحماية هيئة تحرير الشام، على هذا التوجه، لكن هذا لا ينفي وجود تيار قوي من الصقور في جبهة تحرير الشام؛ يدفع للصدام المسلح مع الجميع، سواء أكانت فصائل إسلامية أو غيرها. ويزداد تصلب هؤلاء الصقور مع الدول مما يجعل المواجهة العسكرية مطروحة بقوّة، مواجهة لا ترغب بها تركيا، ولكنّها لا تستبعدها. فالخيار الأمثل أمام الأتراك التدخل، أو ترك المجال للكرد في التوغل بإدلب أو حرقها من قبل الطيران الروسي. وقراءة التصريحات والبيانات التركية توضح ذلك. فمن الخطأ تشبيه العمل العسكري في عملية درع الفرات بما تريده تركيا من انتشار ومراقبة لوقف إطلاق النار في إدلب. والشيء المشترك بين عملية درع الفرات وعملية إدلب عند الأتراك؛ منع الحلم الكردي ببناء دولة شمال سوريا، والوصول للبحر المتوسط.
ولا شكّ أنّ الروس يرغبون بعمل عسكري لا سياسيا. فالتدخل العسكري التركي يصبُّ في صالح روسيا التي تريد توريط تركيا، وروسيا وإيران تدركان جيدا أنّ صداقة الحاجة الآنية هي التي تجمعهم مع تركيا، فالأهداف المستقبلية مختلفة حدّ التناقض، وسحق القوى العسكرية الموجودة في إدلب يفقد تركيا ورقة مؤثرة لاحقا، ويجعل الدور التركي هامشيا.
ولا يغيب ذلك عن الأتراك القارئين للواقع السياسي الدولي والمستجدات الإقليمية. فالاستفتاء في إقليم كردستان دفع تركيا لمد مزيد من الجسور مع إيران، ولا سيما أنّ حلفاء الثورة السورية مشغولون بأنفسهم. فقطر، حليف تركيا الرئيس في المنطقة والتي تتشاطر معها رؤية الحل في سوريا، مشغولة بعداوة شقيقاتها ودفع تهمة الإرهاب. أمّا السعودية، فقد أعادت ترتيب أولوياتها، وتمد يدها للروس لتشكيل وفد سياسي موحد للمعارضة السورية، وتعطي موافقة ضمنية للحل السياسي الروسي، ناهيك عن الموقف الأمريكي الداعم للكرد في الشرق السوري، والضبابي تجاه الحل النهائي للمستقبل السوري. كلُّ هذا دفع الأتراك للمسار السياسي المُهَندس من قبل الروس، على أمل حقن ما يمكن من الدماء وتجنيب إدلب كارثة إنسانية، وتحقيق الحد من طموحات السوريين السياسية في انتقال سياسي يكون للأسد دور في المرحلة الانتقالية وحسب، وقبل ذلك تحقيق الأمن القومي التركي.