ما زالت معضلة أو أزمة إدلب حاضرة بقوة على جدول الأعمال التركي، والوضع فى المدينة بعد سيطرة جبهة النصرة عليها بات حساساً جداً ولا يمكن أن يستمر، لخطورته ليس فقط على تركيا ومصالحها وإنما على المدينة نفسها كما على القضية السورية العادلة وحق الشعب السوري في الحرية الكرامة وتقرير المصير بعيدا عن ثنائية الإرهاب والأسد.
وفي هذا السياق كانت أنقرة قد قدمت اقتراحاً من أربعة بنود للوجهاء العشائر قادة الفصائل وممثلي المجتمع المدني في إدلب الاقتراح حسب صحيفة "يني شفق" المؤيدة للحكومة - 23 آب/أغسطس الماضي - تضمن أربعة بنود أساسية هي: إقامة إدارة مدنية تعمل في المدينة بإشراف الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني المعارض، وانسحاب المقاتلين إلى خارج المدينة، وتشكيل شرطة مدنية من البعض منهم، كما في نموذج درع الفرات، وتسليم المناطق المتاخمة للحدود التركية السورية الممتدة من إدلب ومعبر باب الهوى إلى ريف اللاذقية غرباً لمقاتلين وفصائل مقربة من أنقرة، وفي الأخير حل هيئة تحرير الشام لنفسها، وإعطاء مقاتليها الحق في الانضمام إلى أيمن الفصائل المقاتلة الأخرى أو التي لا توصف أو توصم بالإرهاب.
ثمة أسباب ودوافع تقف خلف الاقتراح السالف الذكر. فتركيا متضررة من الوضع الحالي في مدينة إدلب لعدة أسباب. وسيطرة جماعة إرهابية على المدينة تتماثل فكرياً مع القاعدة، وحتى مع "داعش" يرتد بالضرر المباشر عليها من الناحية الأمنية البحتة، حيث أن غالبية العمليات الإرهابية التي نفذت في الأراضي التركية سواء من داعش أو من بي كا كا خطّط لها ودُعِمت لوجستياً من مناطق سورية خاضعة لسيطرة الإرهابيين.
كما أن سيطرة جبهة النصرة على معبر باب الهوى يحرج تركيا، أيضاً فهي ملزمة بإدخال المواد الإنسانية والإغاثية، للمدينة، كما بعدم غلق المعابر أمام السوريين، وفي نفس الوقت لا تريد التعامل المباشر مع النصرة التي تسيطر على المعبر، كما على الجانب السوري من الحدود معها لجهة إدلب.
ومن الناحية الإنسانية تؤدي سيطرة النصرة على المدينة إلى تقليص وتحجيم الدعم الإنساني والإغاثي للمدنيين سواء من الجهات التركية أو من المؤسسات الدولية المعنية، كما أنها أي سيطرة النصرة لن تهيىء حالة من الاستقرار تسمح بمزاولة الناس لحياتهم الاعتيادية في جوانبها الاقتصادية الاجتماعية المختلفة، وتزيل أي احتمال بحدوث موجات نزوح كبيرة باتجاه تركيا أو باتجاه مناطق عملية درع الفرات.
وفيما يتعلق بهذا النموذج فإن أنقرة تخشى من التأثير السلبي لحالة أو معضلة إدلب على الاستقرار السياسي الأمني الاقتصادي الاجتماعي في المنطقة التي باتت بمثابة النموذج في الشمال بل في سورية كلها.
أما أهم الأسباب وجوهرها ربما تمثل بالتخوف من الخيار والعمل العسكري الأمريكي الغربي أو حتى الروسي ضد إدلب بحجة محاربة الإرهاب، باستنساخ نموذج الرقة الموصل عين العرب كوباني، أي تدمير كامل المدينة لها وتدفق عشرات آلاف بل مئات آلاف اللاجئين إلى تركيا، مع أرجحية الاستعانة بإرهابيين في العملية، سواء من قبل أمريكا أو روسيا، واستفادة نظام الأسد مباشرة أو غير مباشرة منها؛ سياسياً وأمنياً أيضاً.
للأسباب السابقة مجتمعة صيغ الاقتراح التركي في الحقيقة بعناية فائقة من أجل خلق حالة مدنية مستقرة في المدينة، ونزع أي ذريعة أو حجة لتنفيذ عملية عسكرية ضدها، وهو تضمن بنود واقعية غير مستحيلة بالمتناول وبالإمكان تنفيذها، وأولها كان تشكيل إدارة مدنية تشرف على تسيير شؤون الناس وبإشراف الحكومة المؤقتة للمعارضة، أي أنه سيتم تحسين الوضع المدني المعيشي والأمني، وخلق حالة من الاستقرار تحول دون التفكير أو حتى التلويح بعملية عسكرية ضدها أو ميل الناس للنزوح عن المدينة والمنطقة.
سياسياً؛ يصب الأمر بالتأكيد في صالح المعارضة والائتلاف والناس على حد سواء ويخلق نموذجا مستقرا يمنع استنساخ نموذج الموصل الرقة فيها ويعيد تكريس الائتلاف والمعارضة كلاعب مركزي وأساسي لا غنى عنه في مواجهة لعبة أو أكذوبة وحيلة داعش أو النظام..
الاقتراح انتبه كذلك إلى الشق الأمني لجهة استيعاب المقاتل ينفي جهاز شرطة مدني ما يحملهم المسؤولية عن مدينتهم من جهة، ويمنع أي فراغ يسمح بتدهور الأوضاع، ويساهم كذلك من جهة أخرى في البند الأهم، أي تسهيل حل هيئة التحرير الشام لنفسها، وهو البند الأكثر إشكالية حساسية وصعوبة.
أمنياً أيضاً؛ يتضمن الاقتراح نشر مقاتلين من فصائل المعارضة على طول الحدود مع تركيا، بما يؤدي إلى استقرار الأوضاع فيها، استمرار تدفق المساعدات وحركة المواطنين والبضائع، والأهم منع أي ذريعة لاستهدافها من التحالف الغربي أو من القوات الروسية بحجة محاربة الإرهاب.
النقطة الإشكالية في الاقتراح طبعاً، تتعلق بحل هيئة التحرير الشام لنفسها، واندماج عناصرها في الفصائل، المقاتلة الأخرى وهو اقتراح واقعي ملحّ جدّاً لتجنيب إدلب أي سيناريوهات سيئة، ولسحب الذريعة الأساسية من النظام وحلفائه للقيام بحملة تدميرية ضد المدينة، أو لتصوير النظام لنفسه كعضو ومكوّن أساسي في الحرب ضد الإرهاب أو الاستعانة بإرهابيي بي كا كا، ما يمثّل مساهمة وخطوة أخرى باتجاه تأسيس كيانهم الإرهابي الشوفيني في المناطق الشمالية، واستنساخ نموذج النظام وليس نموذج سورية الجديدة الذي اندلعت الثورة واستشهد وشُرِّد الملايين من أجله.
عموماً فإن الاقتراح نفسه سواء نجح أو لا يظهر أو يؤكد حقيقة كون تركيا لاعبا أساسيا في الملف السوري لا يمكن تجاهله أو فرض السيناريوهات السيئة والماكرة ضده، وأولوية ملف أو معضلة إدلب في الوقت الحالي بالنسبة لتركيا ولفاعلين كثر في المعارضة السورية.
الاقتراح نال رضا فئات شعبية واسعة في المدينة، وزاد الضغط على هيئة تحرير الشام التي قبلته باستثناء بند حل نفسها، ما يعني أن ثمة أرضية أو قاعدة صلبة للحوار والتفاوض من أجل تنفيذه. وهو ما حصل فعلاً باقتراح مضاد بحل كل الفصائل لنفسها قد يسرع بدوره من فكرة تشكيل جيش مدرب ومحترف للمعارضة والاستعانة به في محاربة داعش في الشرق الشمال والجنوب، بدلاً من بقايا النظام وإرهابيي الحشد، بل الحشود الشعبية المرتزقة والمشغّلة من قبل أمبراطورية الدم والوهم الفارسية.
سيكون سعي تركي حثيثا طبعاً إلى نيل موافقة إقليمية ودولية على جعل إدلب واحدة من مناطق خفض التصعيد بإشراف أنقرة، والقبول بالتالي ولو نظرياً بفكرة دخول قوات تركية إليها عند الحاجة، وفي السياق طبعاً تكريس الدور الأساسي لها في رعاية المدينة، والإشراف على مناحي الحياة فيها.
عموماً، فإن الأهم والأولوية الآن في ملف معضلة إدلب يتمثل بمنع الخيار العسكري، وإزاحته عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي عبر خلق حالة مدنية مستقرة وآمنة في المدينة، ولكن إذا تعذر ذلك فإن أنقرة ستجد نفسها أمام الخيار المر والصعب، وبالتالي المبادرة بنفسها إلى القيام بعملية عسكرية وفق نموذج درع الفرات مع الاعتماد على مقاتلين سوريين من أبناء المدينة، والمحافظة لمنع أي تدخل أو مشاركة لأطراف غير مرغوبة بها سياسياً أو أمنياً، ولمنع تدمير المدينة وجعل الحسم أسهل وأقل كلفة على كل الأطراف.