يثار بين الحين والآخر في الحوارات الإعلامية، بوسائطها المختلفة، موضوع الدوله القومية التي نعيش داخل بوتقتها. وهذا يذكرني بالنصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، مع تأسيس مركز الدراسات الخضارية، والذي استهدف من ضمن أهدفه القيام بالبحوث والدراسات للوصول لفكرة الدولة بالشكل الحضاري الإسلامي. وبالفعل بدأ المركز بالتعاون مع عدد كبير من المفكرين والباحثين في مصر والعالم العربي والإسلامين والذين يتبنون الفكر الإسلامي، في وضع المشروعات البحثية وبرامج الندوات من أجل تحقيق هذا الهدف. وكنا كلما تناولنا جانبا من الجوانب، مثل الجانب السياسي وقضايا الشورى والتعددية، أو الجانب الاقتصادي وقضية التنمية والعمران، أو الجانب الاجتماعي وقضايا الأسرة والمرأة ودورها، ومختلف جوانب الحياة، كان يثار تساؤل هو: هل ما نصبوا إليه من أفكار يمكن تطبيقه في ظل
الدولة القومية القائمة، أم إننا لتطبيق هذا الفكر وتحقيق نجاحه في حاجة إلى أوعية حكم مختلفة؟ وكنا لا نتوقف كثيرا للإجابة على هذا التساؤل. ولكنه كان يثار بين الحين والآخر، خصوصا عندما نناقش بعض القضايا المتعلقة بإدارة شؤون الدولة من قضاء وتشريع والفصل بين السلطات وخلافه.
تزامن مع هذه الفترة أن شارك عدد كبير من
الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية لمجلس الشعب المصري نهاية عام 1987، من خلال ما سمي بالتحالف الإسلامي تحت مظلة حزب العمل، وبلغ عدد الإخوان الذين نجحوا في الانتخابات أكثر من 35 عضوا من مختلف المحافظات، بزعامة المستشار مأمون الهضيبي، وكان المركز يساعدهم في التعرف على الكثير من القضايا التي يناقشونها في المجلس، مثل الموازنة والخطة والكثير من مشروعات القوانين التي تعرض عليهم. وبالتالي كانت تعقد الكثير من الندوات التي كان يشارك فيها هؤلاء النواب، وكانوا يتناولون ويناقشون خبراتهم المختلفة مع قطاعات الدولة المتعددة والتي يتعاملون معها. وكان يثار نفس التساؤل: هل ما نسعى إليه من تقديم لمشروع إسلامي حضاري يمكن تطبيقه في الدولة القومية القائمة أم أنه في حاجة إلى شكل مختلف من أشكال الدولة؟ وكانت الإجابة متأرجحة، حيث أن البعض كان يرى أنه يمكن تطبيقه بالتدريج وكان البعض الآخر يرى أنه لا يمكن تطبيقه، وأنه يجب البحث عن شكل آخر وأوعية حكم أخرى.
وبعد مرور ما يقرب من 25 عاما، وفي تموز/ يوليو 2012، قدر الله سبحانه وتعالى أن يتولى رئاسة مصر أحد أبناء الإخوان المسلمين وأبناء الفكرة الإسلامية من خلال انتخابات حره نزيهة. بدأت مرحله جديده في التعامل مع الدولة، وهي مرحلة إدارة الدولة - وهذا كان قفزاً على المرحلية. بالفعل تم التفاعل مع قطاعات الدولة المختلفة، مثل التعليم والاقتصاد والتموين والإسكان والخدمات المختلفة حتى قطاع النظافة. ونظرة موضوعيه منصفة لفترة رئاسة الدكتور محمد مرسي؛ تبين أنه والفريق المعاون بذلوا الجهد والطاقة والخبرة المتاحة قدر المستطاع، واجتهدوا ما أمكنهم من أجل تقديم نموذج نجاح ينطلق من الفهم الحضاري الإسلامي لمشاكل المجتمع. وبالتالي، تم تحقيق نجاح في عدد من القطاعات، وقطاعات أخرى لم يحالفها التوفيق بالدرجة المتوقعة والمأمولة. هنا ظهر مصطلح "الدولة العميقة"، وتم تحميله كافة أشكال عدم النجاح في تلك القطاعات. هذا بالإضافة إلى وجود قوى داخلية وأخرى خارجية كانت تسعى جاهدة لإفشال التجربة الديمقراطية الوليدة. ولم يلتفت أحد إلى ما أثير منذ 25 عاما عن صلاحية الدولة القومية لتطبيق الفكر الحضاري، والذي أُطلق عليه مشروع النهضة.
في نهاية عام 2012، بعد ستة أشهر من تولي الدكتور مرسي المسؤولية، صدر كتاب لأحد الباحثين المتخصصين في التاريخ والدراسات الإسلامية في الجامعات الكندية والأمريكية، الدكتور وائل حلاق، بعنوان "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة
الأخلاقي". قدم الباحث في الدراسة المنشورة تحليلا عميقل للدولة الإسلامية ومقوماتها وتطورها على مدى عقود طويلة، بداية من دولة المدينة وحتى الدولة والخلافة العثمانية. والبحث موثق بآراء الفقهاء المختلفة، بالإضافة إلى آراء المفكرين الغربين والمستشرقين الذين قاموا بدراسة
الدولة الإسلامية وأسس نجاحها. كما قدم الكتاب تحليلا للدولة القومية الحديثة ونشأتها وتطورها والأسس التي تقوم عليها. وتناول الدكتور حلاق عدد من القضايا المثارة بالنسبة لإدارة الدولة، مثل مفهوم الفصل بين السلطات التي تدير الدولة، وكذلك مفهوم ودور الأخلاق في نظام الدولة بسلطاتها المختلفة، ويقارن بين الدولة الإسلامية ونظيرتها الدولة القومية الحديثة. وفي النهاية يخلص الكاتب إلى أن إقامة الدولة الإسلامية من خلال المشروع الإسلامي يعتبر مستحيلا في ظل الدولة القومية الحديثة، ويعلق على ذلك بأن هذه النتيجة ليست لإحباط الذين يتبنون الفكرة الإسلامية والمشروع الإسلامي، ولكنه ينبههم إلى أن الجهود التي تبذل من اجل إسقاط المشروع الإسلامي على أوعية الحكم في الدولة الحديثة لن تكلل بالنجاح، وعليه يجب البحث عن أوعية أخرى.
إن الدولة كما يُعرفها علماء السياسة في معناها البسيط هي شعب وأرض وسلطة، وبدون أي من هذه العناصر الثلاثة لا يمكن أن تقوم دولة. فاليهود الذين كانوا شعبا متناثرا ومشتتا في شتى بقاع الأرض بذلوا كافة الحيل، واستخدموا كل الوسائل غير المشروعة من أجل إيجاد أرض لقيام دولتهم العنصرية. ولكن بعض العلماء من أصحاب المذهب الطبيعي يرون أن الأساس في الدولة هما الأرض والشعب فقط، والسلطة تأتي لاحقا عندما يتم الحاجة إليها. ويطلق على هذا التوجه أن الأرض والشعب هما شرطان ضروريان وأن السلطة شرط كاف، وأن الأصل أن يلتزم الأفراد والمواطنون بالقيم العامة التي تضمن للمجتمع أن يعيش في وئام وسلام واستقرار، وإذا لم يتم الالتزام بين أفراد المجتمع تأتي ضرورة مرحلة الإلزام للمواطنين من خلال السلطة. وهذا هو المعنى الذي ورد في الأثر عن الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ عندما قال: "إن الله ليزع بالسلطان ما لم يزع بالقران". وهنا أيضا تأكيد أن الأصل هو أن يُزع الناس والمواطنين بالقرآن والقيم الأخلاقية، ولكن إذا لم يحدث ذلك فيجب أن تكون هناك سلطه تلزمهم بهذه القيم. والدولة القومية الوطنية الحديثة لا تعترف بالأخلاق والقيم ابتداء، ولا تعترف بأي منهما كعناصر فاعلة في إدارة شؤون الدولة، ومن هنا كان التأكيد على وجود السلطة. ولكن الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي يقوما على تأسيس الأخلاق والقيم بالنسبة للأفراد و المواطنين، وهناك العديد من الآيات القرانية التي تؤكد هذا المعنى وترسخه.
إذاً، فإن السلطة والسلطان تعمل على تقويم أي اعوجاج من جانب الأفراد والمواطنين في حركة المجتمع. ولكن في حالة اعوجاج السلطة نفسها ولم يَزع السلطان بالقرآن، كأن تستبد السلطة ويتجبر السلطان، فأي سلطة تُوزعه؟ وهنا نستدل بكلمات خالده للصديق أبي بكر الخليفة الأول رضي الله عنه وأرضاه، وكلمات قالها عام 11 هجريا، عند مبايعة المسلمين له في سقيفة بني ساعدة: "وُليت عليكم ولست بخيركم..."، حتى قال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".. وما أُثر عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: "إذا رأيتم فيِ اعوجاجا فقوموني". والخليفة الأول والثاني رضى الله عنهما؛ يؤكدان أنهما سوف يُوزعان بالقرآن، فإن لم يحدث واستبدا أو تجبرا فلا طاعة لهما، وعلى المسلمين تقويمهما. ويؤكدان أيضا أن السلطان الذي يُوزع الحاكم الذي لا يُزع بالقرآن هو المواطن نفسه. وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وإن كان بعض العلماء قد ضعفه، ولكن يعضضه الحديث في مسند الإمام أحمد: ".. خلافة راشدة على منهاج النبوة ..."، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فخلافة أبي بكر وعمر رضى الله عنهما خلافة راشدة، وهى نبراس لنا لنتبعه؛ لأنها على منهاج النبوة.
إن هذه الكلمات وتطبيقاتها هي التي أقامت الدولة الإسلامية وجعلتها تستمر وتنجح مئات السنين. من هنا كان من الواجب، ومن الضروري، أن يُعد الفرد والمواطن إعدادا جيدا ليُوزع بالقرآن، ابتدأ وليُزع السلطان ويقومه إذا اعوج. وخبرات مصر وتركيا - سلبا وإيجابا - الأخيرة تؤكد هذا المعنى.
والمنهج النبوي الكريم، والذي طبقه الرسول عليه الصلاة والسلام القائم على الوحي الإلهي في إقامة الدولة، اعتمد هذا المفهوم، وكان التركيز على الفرد وتكوينه وإعداده. والفترة المكية التي استمرت 13 عاما هي الفترة التي تم توظيفها من أجل إعداد الأفراد الذين استطاعوا أن ينشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. ثم كانت فترة إقامة المجتمع في المدينة، ويجب أن نتذكر الدور الذي قام به الصحابي الجليل سيدنا مصعب بن عمير رضى الله عنه في المدينة، عندما أرسله الرسول صلي الله عليه وسلم إليها قبل الهجرة بعامين لتأهيل وإعداد المجتمع قبل الهجرة. بعد ذلك جاءت الدولة والخلافة، وترسخت وانتشرت واستطاعت أن تقود البشرية على مدى قرون من الزمان. كما أننا نجد أن الكثير من الحركات التجديدية للإسلام قد التزمت هذا المنهج. فنجد حركة الأخوان المسلمين تؤكد على هذا المنهج - من خلال العديد من كتابات الأستاذ البنا والأساتذة الهضيبي والتلمساني ومشهور رحمهم الله وغيرهم - وعلى أهمية المرحلية، بداية من إعداد الفرد والأسرة ثم المجتمع ثم الحكومة والدولة ثم الخلافة وأستاذية العالم. بالطبع يمكن العمل على التوازي؛ لأن إعداد الفرد والمجتمع لن ينتهي وسوف يستمر حتى مع عودة الخلافة الراشدة التي بشرنا بها المصطفى صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، ولكن المهم هو عدم تجاوز المراحل أو القفز عليها.
هذه هي الدولة التي نريد أن تقوم وأن نعيش في كنفها، وهذه هي الدولة التي طبقها وأقامها الرسول الكريم والمسلمين في بداية الدعوة، وهي الدولة الإسلامية، وليست دولة ذات مرجعية إسلامية أو دولة تفصل السياسي عن الدعوى. وأؤكد أن الدولة الإسلامية التي نريد ونسعى إليها هي دولة مدنية وليست دينية بالمعنى المتعارف عليه. ولعل الكثير يذكر المناظرة التي حدثت في عام 1992 في معرض الكتاب المصري، وتناولت الدولة الإسلامية وهل هي دولة دينية أو دولة مدنية، وشارك فيها الشيخ محمد الغزالي والأستاذ مأمون الهضيبي والدكتور محمد عمارة والدكتور محمد خلف الله والدكتور فرج فوده. وتوصلت المناظرة ونتائجها إلى أن الدولة الإسلامية هي شكل حقيقي للدولة المدنية وليست دولة لاهوتية دينية. ولذلك يسعى أعداء الإسلام إلى تحطيم هذه الفكرة، حتى قبل إعادة وجوده بإنشاءأو الترويج للنماذج المشوهة لنفس المصطلح - نُذكْر أن تنظيم داعش سمى نفسه "الدولة الإسلامية" عام 2014 وذلك بعد انقلاب تموز/ يوليو 2013 في مصر - حتى يشكك المسلمون في المصطلح ومدلولاته، حتى أبناء ما يطلق عليه بتيار الإسلام السياسي، ويُرهب غير المسلمين من الفكرة من أساسها.
كلمة أخيرة: إن الدولة الإسلامية التي ننشدها ستكون أوعيتها مختلفة وشكلها مختلف عما نعيشه الآن في ظل الدولة القومية. فالقضاء والتقاضي بين الناس سيختلف عن طرق التقاضي الآن، وكذلك الجيش والشرطة وأجهزة الأمن والدفاع ستكون أيضا غير ما تعارفنا عليه في ظل الدولة القومية. وقدم الكثير من الباحثين والمفكرين المسلمين رؤى عديدة ودراسات مختلفة حول شكل الدولة الإسلامية ومؤسساتها، وقد قدم مركز الدراسات - كما ذكرت - وساهم في العديد من القضايا في هذا الشأن. ولكننا غير متيقنين من صلاحية هذه الدراسات والرؤى وإمكانية تطبيقها في ظل وجود الدولة الإسلامية التي ننشدها. ومما يعبر عن هذا التوجه؛ ما ذكره الأستاذ سيد قطب في كتابه خصائص التصور الإسلامي وفي تفسير الظلال؛ أنه في حالة وجود المجتمع والفرد المسلم المُعد إيمانيا وعقائديا سوف تتلاشى الكثير من القضايا والمشكلات التي نعيشها الآن، ودلل على ذلك بعدد من الأمثلة، كالنظام الربوي والتأمين وكيفية اختيار السلطة التشريعية وأهل الحل والعقد، وغير ذلك من قضايا. ولكننا متأكدون وواثقون بأن أساس هذه الدولة وأهم مقوماتها هو وجود المواطن والمجتمع المعد أخلاقيا وعقائديا. وكما نقل عن الإمام مالك قوله: "لا يُصْلِحُ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصْلَحَ أَوَّلَهَا". وصَلُح أول هذه الأمة كان ببناء وإعداد الفرد والمجتمع والمواطن الذي يزع بالقيم الأخلاقية والإيمانية أولا، وعندها سيكون المجتمع قادرا على أن يُوزِعَ السلطة ويُقومها إذا استبدت، وأن يحمل راية الدولة الإسلامية ويقدمها للعالم وللبشرية أجمع إن شاء الله.
والله ولى التوفيق.