ردود أفعال عالمية ساخطة تجاه المطالبة بوقف قناة الجزيرة القطرية، بما يؤكد أن القناة لم تعد قطرية سوى بمفهومنا نحن العرب، بعد أن استحوذت على اهتمام المشاهدين في أنحاء العالم، ليس من خلال البث الإخباري العربي فقط، ولا حتى الرياضي ذائع الصيت، وإنما من خلال الجزيرة الناطقة بالإنجليزية أيضا، لذا فقد بدت أمام العالم الدعوات إلى إغلاق القناة بمنزلة تخلف يضاف إلى ما تعانيه المنطقة في هذا الشأن المتعلق بحرية الإعلام، وحقوق الإنسان، والأنظمة الديكتاتورية بصفة عامة، التي لم تعد تتوقف على أنظمة العائلات الحاكمة، بعد أن أصبحت الجمهوريات لا تقل عنها، بل ربما تجاوزتها في بعض الأحيان.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن قناة الجزيرة الإخبارية، منذ انطلاقتها عالم 1996، أثْرت الحياة الإعلامية العربية وأيضا السياسية إلى حد كبير، ذلك أن تليفزيونات العالم العربي في معظمها لم تكن تعي الرأي الآخر على الهواء مباشرة سوى من خلال الجزيرة للمرة الأولى، بعد دور الـC. N. N. في الحرب على العراق عام 1990، كما لم يكن للتليفزيونات العربية مراسلون في مواقع الأحداث الساخنة قبل خروج تليفزيون الجزيرة إلى الحياة، ذلك أننا كجمهور اعتدنا متابعة الأحداث العالمية، وحتى أحداثنا العربية، من خلال وكالات الأنباء الأجنبية، مثل رويتزر، والفرنسية، والأسوشيتد برس، ويونايتد برس، والألمانية، وغيرها، إلى أن أصبحت هذه الوكالات جميعها تنقل عن تليفزيون الجزيرة في أحيان كثيرة، بعد أن حقق تفوقا ساحقا لأكثر من سبب.
كان من المفترض أن تسعى القنوات التليفزيونية العربية، ووكالات الأنباء الرسمية، إلى تطوير نفسها لمجاراة ذلك الذي يجرى، إلا أنها للأسف لم تفعل، أخذت حكومات المنطقة خلال سنوات الجزيرة الأولى تفتعل أزمات سياسية مع قطر، وأصبحت الشكوى مريرة عن طريق السفارات ووزارات الخارجية أحيانا، وعن طريق جامعة الدول العربية في أحيان أخرى، إلا أن هذه الجهود لم تنجح في كبح جماح القناة العنيدة، مما اضطر البعض في السنوات الأخيرة إلى تغيير التكتيك، وذلك بإنشاء قنوات جديدة موازية، تعمل بأسلوب الجزيرة نفسه، عل وعسى ينفض المشاهد عنها، بينما ظلت وكالات الأنباء العربية تعتبر نفسها ناطقة باسم الأنظمة الرسمية فقط، لا تتميز إلا بأخبار سيادته، أو نشاط جلالته، أو تصريحات سعادته.
بالفعل خرجت إلى الوجود قنوات إخبارية متخصصة تابعة لأنظمة بعينها، مثل العربية السعودية، وسكاي نيوز الإماراتية، وقبلهما كانت النيل الإخبارية المصرية، إلا أن الجزيرة كانت قد انطلقت وثائقيا ورياضيا وإنجليزيا، مما جعلها تتجاوز في معظم الأحيان الـC. N. N الأمريكية، والـB. B. C البريطانية، ثم ظهرت بعد ذلك قنوات أخرى فرنسية وروسية وحتى كورية، لمجاراة ذلك الصراع على المشاهدة الإعلامية، إلا أن القناة القطرية كانت قد تجاوزت أيضا دورها الإعلامي، بأداء دور سياسي كبير، في أحداث ما يسمى الربيع العربي، خرج بها هذا الدور عن مجرد كونها قناة تليفزيونية.
الغريب أن الأنظمة والشعوب على السواء قد رحبت بالجزيرة كثيرا في أداء هذه الأدوار، مثلما كان مع الحالة المصرية تحديدا في أحداث 25 يناير 2011، حيث كانت القناة تجد تعاونا من القائمين على أمر إدارة البلاد خلال تلك الفترة، وكانت تجد أيضا ترحيبا في الشارع، إلا أن الواضح أن المصالح لم تعد تتلاقى في كثير من العواصم، وهو ما لا يستسيغه الرأي العام الغربي ولا المنظمات الدولية ذات الصِّلة، وهو ما جعل الأمم المتحدة تحديدا تنتقد الدعوات إلى إغلاق القناة، وتصفه بأنه (هجوم غير مقبول)، وجاء في تصريح الاعتراض الذي نقله روبرت كولفيل، المتحدث باسم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان قوله، إن الإصرار على إغلاق القنوات التليفزيونية مطلب «شاذ» وغير مسبوق، وغير منطقي، وغير معقول بشكل جلي.
كل ذلك يؤكد أن مطلب إغلاق قناة الجزيرة لم يحصل على حقه من الدراسة، من الدول التي تطالب بذلك، كغيره من بقية المطالب التي اصطدمت بأبسط الأمور، وهي أنها مقدمة إلى دولة ذات سيادة، معترف بها دوليا، وهو ما لم يقبله المجتمع الدولي أيضا، مما جعل دولة تعداد مواطنيها لا يتجاوز نصف مليون نسمة تتحدى هذه المطالب بقوة، وتحظى بتأييد الدول الكبرى في الوقت نفسه، مما أربك حسابات دول المقاطعة والمطالبة والخصام.
أعتقد أن الخطأ السياسي الذي وقعت فيه دول المقاطعة الأربع تجاه هذه الأزمة، هو تكرار للخطأ الإعلامي الذي وقعت فيه على مدى 21عاما، هي عمر قناة الجزيرة، ذلك أنه كان الأجدر إعلاميا مقارعة الحجة بالحجة من خلال مئات القنوات العربية المنتشرة الآن دون أي فائدة تذكر، وما الردح الليلي اليومي خلال هذه الأزمة تحديدا، إلا أكبر دليل على الفشل، بموازاة ذلك لم يكن أربعة وزراء خارجية مقنعين أو على مستوى الحدث أيضا في طرح قضيتهم، مقارنة بشاب صغير حمل على عاتقه قضية بلاده بضمير دون تكليف أو تكلف.. وتظل أسرار الأزمة تكمن في زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمنطقة، كما يكمن سر التهدئة في اتصاله الهاتفي الأخير بالقاهرة!!