سرعان ما يأخذ الصراع المجتمعي في بلدان ما قبل الحداثة صيغة الصراع العامودي، خصوصا في البلدان التي تتكون من فسيفساء اجتماعية متعددة، فيتداخل ما هو سياسي مع ما هو اقتصادي وديني وطائفي وإثني، الأمر الذي يؤثر سلبا على نشوء حركة وطنية جامعة تتجاوز البنى المغرقة في المحلية.
كان لعنف النظام في بداية الثورة دور رئيس أيضا في دفع القوى المجتمعية نحو الانضواء والتقهقر ضمن منظوماتها الاجتماعية الضيقة، هكذا وجدت هذه القوى نفسها متجهة بوعي أو بدون وعي نحو تكريس الهويات الفرعية، وإن اتخذ هذا التكريس أشكالا متباينة، فتغلبت البنى الطائفية على البنى العشائرية في مناطق معينة، وتغلبت البنى العشائرية على البنى الطائفية في مناطق أخرى، فيما تواجدت صيغة متعددة الأشكال في الظاهر، لكن جوهرها يتمحور حول الهيمنة الطائفية والإثنية، كما هو الحال في مناطق النظام ومناطق سيطرة "قوات
سوريا الديمقراطية".
تشكلت في سوريا خلال السنوات الماضية سلطات محلية متباينة، بعضها حل محل سلطة الدولة ومؤسساتها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وبعضها الآخر حل محل الوسطاء والوجهاء التقليديين في مناطق سلطة النظام.
يمكن تقسيم هذه السلطات إلى ثلاثة أقسام تبعا للفضاءات الجغرافية:
1ـ في مناطق المعارضة تم القضاء على الوسطاء التقليديين، سواء أولئك التابعين مباشرة للنظام (منظومة البعث)، أو أولئك المستقلين من ذوي العائلات الكبيرة أو الشخصيات ذات المكانة الدينية أو العشائرية أو الاقتصادية.
نشأ وسطاء جدد بديلا عن ذلك، حصلوا على مكانتهم من توسطهم بين مناطقهم والمانحين الخارجيين، فاستحصلوا على مكانة ونفوذ كبيرين، ثم ما لبث في طور ثان أن بدأت قيادات المعارضة المسلحة بتشكيل هيئات اجتماعية لترتيب متطلبات الحياة، مستفيدة من بعض الوجهاء التقليديين ممن ظلوا مع المعارضة.
لكن كثرة القوى العسكرية أدت إلى تعدد السلطات، الأمر الذي حال دون نشوء سلطة متماسكة ذات تراتبية واضحة، فاتخذت هذه السلطات صيغة مغرقة في المحلية، وساهم استمرار العمليات العسكرية في تعزيز هذه الطبيعة المحلية، وهذه من أحد أسباب فشل الحكومة المؤقتة، حيث عجزت عن اختراق هذه السلطات.
ومع الاستقرار العسكري النسبي، بدأت مرحلة أخرى تمثلت بنشوء مجالس للشورى ومجالس تنفيذية لإدارة شؤون الحياة، إلا أن أهم تجربة حصلت في مجال المعارضة الجغرافي هو انطلاق فضاء الحرية، فنشأ مجتمع مدني جديد وحيوي، سمح لكثير من منظمات المدنية من تكثيف حضورها، ورفع مستوى وعيها بأهمية المشاركة في الشيء العام.
وبالتعاون المشترك غير المنظم إداريا نجحت هذه السلطات وإن بدرجات مختلفة في تحقيق إنجازات إدارية وأمنية واقتصادية.
وهذه المنظمات والمؤسسات التي تزداد مع الوقت سيكون لها دورا هاما في عملية عدم مركزة القرار، وفي صناعة مجال اجتماعي يخترق مكامن الحلم للمجتمع الذي يعاد تكوينه.
2ـ تعتبر التجربة الكردية شمالي البلاد الأكثر تطورا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لأن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بأذرعه المتعددة فرض سلطة حقيقية وقوية شبه متسلسلة ومتقاسمة المسؤوليات، لكنها لم تستطع تغطية كافة مناحي الحياة، فأبقت على بعض سلطات النظام في مناطقها كما هو الحال في محافظة الحسكة.
ومع أن الوحدات الكردية حافظت على البنى الاجتماعية ـ السياسية للمحليات، أي على البنى العشائرية ـ القبلية، إلا أنها لم تدخلها في نسيج سلطاتها، وهكذا جاءت شبكاتها المحلية على حساب المكون العربي، كما حدث في تل أبيض ومنبج وغيرهما.
لكن الهيمنة المطلقة لـ"الإدارة الذاتية الكردية" على العمل العام حالت دون نشوء منظمات مجتمع مدني كثيرة وفاعلة كما هو الحال لدى المعارضة.
وبغض النظر عن التباين الحاصل في تجربتي مناطق المعارضة ومناطق الهيمنة الكردية، فإن التجربتين أدتا إلى نشوء شبكات محلية جديدة نقوم على أسس مختلفة عن تلك التي كانت سائدة قبل عام 2011، حيث كانت الشبكات المحلية آنذاك أداة بيد النظام بشكل مباشر أو غير مباشر، وظلت أداة خلفية تعيد إنتاج سلطة النظام بشكل أو بآخر.
3ـ في مناطق سيطرة النظام تم استبدال الوجهاء التقليديين بوسطاء جدد فرضتهم طبيعة المرحلة، فنشأت مجموعات مسلحة قائمة على الضبط والإكراه، ووصل الأمر في بعض المناطق إلى أن أصبحت ذات سلطة فعلية على الأرض، وتستحصل مكتسباتها المادية بأساليبها الخاصة.
في هذه المناطق انعدم الفضاء العام بالكامل، فلا منظمات مدنية ولا لحرية الرأي، وتحول الشأن العام إلى شأن خاص يتبع ملكية النظام، وليس أمام السكان سوى البحث عن خياراتهم المعيشية.