تحت عنوان جامع ("مجتمع المعلومات") أصدر عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاسطيل (وهو أستاذ بجامعة بيركلي من أكثر من ثلاثة عقود) ثلاثية في السوسيولوجيا ضخمة، استهلها بكتاب "المجتمع الشبكي" واستتبعها بجزءين مرجعيين آخرين: "سلطة الهوية" و"نهاية ألفية".
قد لا تتأتى أهمية "المجتمع الشبكي" (وهو بحث تأسيسي بامتياز) بالضرورة من الخلفية السوسيولوجية التي حكمت صياغته في الشكل كما في الجوهر، لكنها تتأتى قطعا من تفوق الكاتب في الإمساك بالخلفيات والأبعاد التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية الثاوية خلف التحولات المعلوماتية، التي أفرزت ما اصطلح الكاتب على تسميته بـ"المجتمع الشبكي".
والحقيقة، يقول آلان تورين مقدم الكتاب، إن قوة هذا النص وبراعة المؤلف في نسج مفاصله، ليس لها من مثيل على إلإطلاق مذ نشر روبرت رايش، أواسط ثمانينات القرن الماضي، كتابه المرجعي"الاقتصاد المعولم".
"لقد كتبت هذا التقديم، يتابع تورين، لأنني على قناعة تامة بأن هذا الكتاب هو أبرع أداة لمعرفة التحولات التي نلجها اليوم. إن قوة معلوماته تطمئننا، ودقة تحاليله تقنعنا، وشساعة الآفاق التي يفتحها تساعدنا على فهم الأوضاع والتحولات التي نخشى الانصياع لها، إذا لم نكن قادرين على فهمها ووضعها في مركز تقكيرنا وفعلنا".
يتعرض الكاتب، على امتداد أكثر من ستمائة صفحة لأربع قضايا مركزية، نادرا ما يتم التعامل معها وتناولها بالدقة والجدية المطلوبين:
- الأولى وتتعلق بالثورة التكنولوجية الجديدة التي طاولت (وطاول مفعولها) ليس فقط ميداني الإعلام والاتصال والمعلومات، ولكن أيضا تكنولوجيا الروبوتيك والأتمتة والبيوتكنولوجيا والميكروألكترونيات والألكترونيات الضوئية، وما يتفرع عنها مجتمعة من علوم وبرامج وتطبيقات وما سواها.
هي تكنولوجيا "ثوروية" بامتياز، يقول كاسطيل، اعتبارا لإفرازاتها وما يترتب عنها من إعادات هيكلة بنيوية عميقة، و"ثوروية" أيضا على اعتبار "البنى الجديدة" التي ثوت خلفها مظهرا وفي الجوهر.
ولهذا السبب، فإن "نقطة انطلاقي في هذا الكتاب، يوضح تورين، ولست الوحيد الذي يضع هذه الفرضية، أنه بنهاية القرن العشرين أصبحنا نعيش أندر فواصل التاريخ، فواصل تميز تحول ثقافتنا المادية عبر تسيد براديغم تكنولوجي جديد، متمحور حول تكنولوجيا المعلومات".
المعلومات إذن هي قلب النظام التكنولوجي المتصاعد، بل هي "القاعدة المادية" التي يتأسس عليها ذات البراديغم ويتقوى. وهي فضلا عن ذلك، المادة الأولية التي من شأنها إفراز مجتمع المعلومات وبصلبه المجتمع الشبكي.
- القضية الثانية وترتبط بعولمة الاقتصاد التي لم تتزامن فقط، وفق المؤلف، والثورة التكنولوجية أعلاه بل وفعلت فيها، تفاعلت معها بقوة... مفسحة في المجال لبروز "مجتمع جديد" يقول كاسطيل، إنه إعادة هيكلة كبرى للاقتصاد، الذي أضحى "معلوماتيا وشموليا في الآن معا".
هي معلوماتية "لأن الإنتاجية والتنافسية لوحدات وفاعلي هذا الاقتصاد (سواء تعلق الأمر بالمقاولات أو بالجهات أو بالأوطان) مرهونتان أساسا بالقدرة على استنبات واستغلال وتطبيق المعلومات الجيدة المبنية على المعارف".
وهي شمولية "لأن الأنشطة المركزية في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وكذا مكوناتها (رأس المال، العمل، المواد الأولية، التسيير، الإعلام، التكنولوجيا والأسواق) منظمة على المستوى الكوني، إما مباشرة وإما عن طريق شبكة من الارتباطات مع الفاعلين الاقتصاديين".
وهي معلوماتية وشمولية معا "لأن الإنتاجية تنشأ والمنافسة تتم، في ظل الشروط التاريخية الجديدة، في إطار شبكة كونية من التفاعلات"، يكون من شأنها تحديد عناصر الاقتصاد الجديد وسماته الأساس، وكذا وتيرة الحركية التي تطبعه.
- القضية الثالثة وتخص الآثار والتبعات التي ترتبت عن الثورة التكنولوجية وعولمة الاقتصاد على "ظروف العمل والحياة الاجتماعية"، باعتبارها (الظروف أعني) المجال الذي تتدافع بداخله التيارات المادية واللامادية، ويتسنى لها التصريف داخل البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وما سواها.
"إن تفاعل البراديغم التكنولوجي الجديد والمنطق التنظيمي الجديد، يقول كاسطيل، هو الذي يكون المرتكز النظري للاقتصاد المعلوماتي. وهذا المنطق هو الذي يتمظهر بأشكال مختلفة في محيط ثقافي ومؤسساتي مختلف".
ومعنى هذا أنه إذا كان العمل هو عصب البنية الاجتماعية، فإن "التحول في التكنولوجيا وفي طرق التسيير، وكذا علاقات الإنتاج داخل وحول المقاولة الشبكية الصاعدة، هو المحور الأساس الذي يفعل عبره براديغم المعلومات ومسلسل الشوملة في المجتمع برمته".
- أما القضية الرابعة فتتعلق بالتحولات التي طاولت وتطاول "الثقافة المهيمن عليها إعلاميا حيث تتحول، بداخلها وبعمق، تمثلاتنا للزمن وللفضاء".
ولما كانت الثقافات هي بوجه من الأوجه، صنيعة مسلسلات التواصل، "فإن كل أشكال التواصل هاته إنما هي مبنية ومرتكزة على إنتاج واستهلاك الرموز". بالتالي، فلا تمايز هناك يذكر بين الواقع وتمثله الرمزي، كما أكد على ذلك بارث وبودريار.
ولئن كان من شأن كل هذه التحولات أن تفرز "واقع حال جديد" اصطلح عليه كاسطيل ب"مجتمع المعلومات". واصطلح عليه غيره بما سواه من تسميات واقعية وافتراضية، فإنه لا يتوانى في الدفع بأطروحة "الدور المركزي" للتكنولوجيا حتى وإن لم يصل به الحال لدرجة القول بدورها "التحديدي" في ذات التحولات.
بالتالي، فإذا كان مجتمع الإعلام قد أعلى من مرتبة "البعد الأدواتي"، فإن ذلك لم يحل دون المؤلف ودون ربط ذات البعد بأشكال الاستخدامات التي تتأتى منه، لا سيما الاستخدامات الاجتماعية والثقافية.