خطابات التخوين أو الترذيل المتبادل لن يكون المستفيد منها إلا الرئيس ومن يناصره من أعداء الانتقال الديمقراطي، وقد يكون الأهم من ذلك كله هو الاستراتيجية التي ستُعتمد في الصراع مع الرئيس ومشروعه
ليس بين الخضوع إلى إملاءات الجهات المانحة من جهة أولى، وبين "التطبيع" مع الكيان الصهيوني من جهة ثانية؛ إلا خطوة لن يعدم الرئيس ألف حجة لتبريرها، ولن يعدم كذلك ألفَ ترحيب إقليمي ودولي للقيام بها
مستقبل الحياة السياسية في تونس ستحدده خيارات الفاعلين الأساسيين، سواء أكانوا في الحكم أم في المعارضة. فقبول الرئيس بتمرير "الإملاءات" الخارجية سيدفع بالقوى الدولية إلى إعطاء الضوء الأخضر للإمارات والسعودية لدعمه وضمان بقائه في السلطة. ولكنّ رفضه لأداء هذا الدور سيعني واقعيا فقدانه لعلة وجوده ذاتها
الصراع الحالي هو صراع بين مكوّنات منظومة واحدة ما زالت تختلف في ملف التطبيع مع حركة النهضة، رغم أنها قد أصبحت طابورا خامسا في تلك المنظومة، كما نؤمن بأن أي "حوار وطني"، بتدخلات أو إملاءات إقليمية ودولية معلومة، لن تكون مهمته إلا إعادة توزيع الأدوار والصلاحيات بين تلك المكونات بمن فيهم الرئيس
رغم أن "المساندة النشطة" بعد 25 تموز/ يوليو قد تحولت إلى "مساندة نقدية" بعد 22 أيلول/ سبتمبر، فإنها لن تصبح رفضا لـ"تصحيح المسار" إلا بعد التأكد من استحالة نجاح الرئيس في ما ينتظره منه "الحزام": إخراج حركة النهضة وائتلاف الكرامة من الحقل السياسي القانوني وتقاسم السلطة مع الرئيس
كل ذلك سيجعل الانتقال الديمقراطي برمته "حالة استثناء" أو مرحلة مؤقتة يتهددها مشروع العودة إلى الجمهورية الأولى؛ بغطاء الإنقاذ أو الإصلاح أو غيرهما من الحجج التي لن يعدمها المستفيدون من استضعاف الدولة، والمتضررون من أي مشروع مواطني اجتماعي في الداخل والخارج.
بمراسيمه الأخيرة، أطلق الرئيس رصاصة الرحمة على كل أولئك "الأنصار" الذين أرادوه شريكا توافقيا يحل محل النهضة وائتلاف الكرامة وجزءا من المنظومة القديمة، أي شريكا يتقاسم معهم السلطة تحت سقف الجمهورية الثانية بعد أن يخلّصهم من النهضة أساسا، وإن كان ثمن ذلك العودة إلى النظام الرئاسي
لا يمكن في اللحظة الحالية الجزم بمخرجات هذا الصراع ولا بتغيرات مواقف أطرافه، خاصة إذا ما علمنا بأن القرار السيادي أو اسقلالية الفاعلين المحليين ليس إلا مجازا أو أسطورة من الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة التي تقترب من وضعية "الدولة المفلسة"
لوأردنا أن نبحث عن جذر الأزمة أو عن العلة الأخطر في تونس فإن علينا البحث عنها في "النمط المجتمعي"، هذا النمط الذي يراد إعادة إنتاجه وإبعاده عن أي تفاوض جماعي بعد الثورة. ولا شك في أن تونس قد حققت مكاسب محدودة في لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية ولكن تلك المكاسب قد ارتبطت بعقل سياسي جهوي، تابع ومتخلف
نحاول بهذا المقال أن نقارب المعنى الذي يفهم به الرئيس التونسي "تصحيح المسار" وعلاقته بقضيتي الشرعية (بمعنى الأساس القانوني) والمشروعية (بمعنى الإنجاز) خلال حالة الاستثناء "إلى إشعار آخر"، أي إلى حين اكتمال شروط "شرعنة" تصحيح المسار وجعله دستورا للجمهورية الثالثة، كما تعكس ذلك خطابات الرئيس وإجراءاته
إن تقاطع الرئيس مع بعض رموز المنظومة القديمة في الموقف من "الإسلام السياسي" وفي القرب من محور إقليمي معروف، وتقاطعه معهم في نقد النظام البرلماني المعدل والميل إلى النظام الرئاسي، لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن الاختلافات الجذرية بينه وبينهم في مستوى الطرح السياسي العام،
ما لم تفهمه "العائلة الديمقراطية" إلى حد الآن هو أن صراع الرئيس ضد حركة النهضة سببه الأهم هو أنها الحزب الأهم في الديمقراطية التمثيلية وفي المنظومة الحزبية، كما لم تفهم أن الرئيس كان سيصارع أي حزب آخر لو اختلفت السياقات، ولو كان ذلك الحزب دستوريا أو قوميا أو يساريا
تونس تحتاج إلى خارطة طريق تعيد هندسة المشهد السياسي وتعيد للثورة مضمونها الاجتماعي بعيدا عن منطق الإقصاء أو التعامل الانتقائي (من لدن الرئيس وأنصاره)، وبعيدا أيضا عن سياسة الهروب إلى الأمام وعدم تحمل المسؤولية ورفض المراجعات الجذرية (من لدن النهضة وقياداتها التوافقية التي أثبتت الوقائع فشل سياساتها)