مدينة الجثث أو مدينة الموت.. هكذا توصف الآن، إنها مدينة
بنغازي، ثاني كبريات المدن الليبية في شرق البلاد، المدينة التي أشعلت الثورة ضد النظام السابق، وبعد ذلك بثلاثة أعوام أشعل اللواء المتقاعد خليفة
حفتر فيها حربا ضروسا للسيطرة عليها، أو هكذا خُيّل إليه.. حربا استمرت لثلاثة أعوام أخرى ضد خصومه من المقاتلين الثوار من أبناء المدينة ومن ساندهم من أبناء المدن الليبية الأخرى..
فحفتر كان يعتقد أنه سيخضعها لما يسميها مؤسسته العسكرية المتحالفة مع داعميه في أبو ظبي والقاهرة، حيث أوكار الدسائس ومعاقل المؤامرات ضد ثورات الربيع العربي. لكن بنغازي عرفت عبر تاريخها برفضها المستبدين والطغاة، وإن هادنتهم لفترة من الزمن ومنحتهم الفرصة ليحفروا فيها حفرة طغيانهم ويسقطوا فيها بعد ذلك.
الأوضاع الأمنية لبنغازي ليست على ما يرام.. فعمليات الاعتقال التعسفي والاغتيال والقتل العشوائي وانفجار السيارات الملغمة، والعثور على الجثث ملقاة في مكبات النفايات؛ مشهد لم يعد مستغربا - إذا حدث - في المدينة، رغم مزاعم قوات حفتر ببسط سيطرتها عليها، بعد حرب دعمتها فيها أطراف دولية وإقليمية، في مقدمتها مصر والإمارات، بدعوى مكافحة الإرهاب.
ثمة سياقات عدة تبرر تراجع الأوضاع الأمنية لبنغازي، من ذلك أن المدينة تسيطر عليها منذ أكثر من عامين مليشيات مسلحة، قبلية ومناطقية ودينية؛ في السابق اتحد صفها في الحرب ضد عدو واحد لفترة من الزمن، لكنها الآن انشغلت بصراعاتها الداخلية وتصفية حسابات ما بعد الحرب. وهذه المليشيات أضحت تسيطر على بؤر ومناطق معينة، وتركت المدينة لمصيرها المجهول، ومعاناتها من الدمار الذي اجتاح مبانيها التاريخية بسبب القصف الجوي الذي نفذته طائرات إماراتية ومصرية لعديد المرات.
أما الأجهزة الأمنية التي من المفترض أن تفرض واقعا أمنيا يطمئن إليه الناس في بنغازي فلقادتها وأفرادها حسابات أخرى تندرج تحت الرغبة في التفرد بالسيطرة على المدينة. فمنهم الموالي لحفتر، وآخر ما زال مواليا للنظام السابق ويرى أن ثورة الليبيين في شباط/ فبراير 2011 لم تكن سوى مؤامرة دولية أسقطت دولة معمر القذافي الأمنية، وهؤلاء تورط أغلبهم في أعمال اعتقالات تعسفية رهيبة وانتهاكات حقوقية خلال عملهم مع النظام السابق، في حين يتقوقع آخرون من قادة الأجهزة الأمنية في بنغازي داخل ولاءات قبلية لقبائلهم التي يرون أنها قدمت الكثير في الحرب في بنغازي خلال الفترة الماضية، وخرجت خالية الوفاض ولم تظفر بغنائم ومكتسبات ما بعد الحرب.
وإلى جانب ذلك، فإن ملف عودة مهجري بنغازي إلى مدينتهم فتح النقاش حوله على طاولة أطراف الأزمة الليبية، وأصبح الحديث عنه علنيا. وقد يجد هذا الملف - بشكل أو بآخر - طريقه نحو التدويل، خصوصا وأنه متخم بالانتهاكات الحقوقية التي تورطت فيها أطراف مسلحة موالية لحفتر ونفذتها في حق المهجرين وممتلكاتهم في بنغازي، ومن شأن تراجع الأوضاع الأمنية بالمدينة تأجيل النقاش حول هذا الملف بحجة أن الظروف غير مواتية لبحثه والوصول إلى حلول تغلقه.
علاوة على ذلك، فإنه من المفترض (ووفقا لخارطة الطريق لحل الأزمة الليبية والتي أقرها مجلس الأمن في تموز/ يوليو من العام الماضي) إجراء
انتخابات برلمانية ورئاسية نهاية العام الحالي، وقد يؤثر تراجع الأوضاع الأمنية في بنغازي على إجراء هذه الانتخابات، فيستمر الوضع على ما هو عليه، خصوصا وأن إجراء انتخابات يعد بالنسبة لحفتر مغامرة غير مضمونة النتائج، في ظل تراجع شعبيته وتورطه مع قادة عمليته العسكرية الكرامة في جرائم حرب، ومن الممكن إلى حد بعيد أن تكون سببا في صدور مذكرة من المحكمة الجنائية الدولية تطالب بمثوله شخصيا أمام المحكمة لمسؤوليته الاعتبارية والمباشرة عمن ارتكبوا هذه الجرائم.