قضايا وآراء

تونس: في العلاقة بين انتهاك الثوابت والديموقراطية

1300x600
على هامش الخطاب الذي ألقاه الباجي قايد السبسي، الرئيس التونسي، بمناسبة عيد المرأة، والذي دعا فيه إلى تجاوز النص القرآني بخصوص قوانين الإرث، وإلى رفع المنع القانوني الساري في تونس حول زواج المسلمة من غير المسلم، عمد بعض المحيطين به إلى محاولة فرض هذا الشذوذ فرضا بربطه بمفهومي الديموقراطية والدولة المدنية.

لا شك أن الديموقراطية تحتاج لتصبح واقعا مستقرا إلى إجماع واسع حولها، شكلا ومضمونا، وإلى توافق بشأن ما ينتظر منها.

ولتحقيق هذا الإجماع، لا بد من تحديد نقاط أساسية لن يقوم الإجماع إلا بها، وإن قام بدونها فسرعان ما سوف ينفرط عقده.

وأولى هذه النقاط أن الديمقراطية هي آلية للممارسة السلمية غايتها التداول على السلطة، ومراقبتها ومنع الاستبداد بها، وأن هذا التداول يتم بين برامج وتصورات مختلفة ومتباعدة بالقدر الذي يجعلها تيارات مستقلة وهي مع ذلك متوافقة على أرضية مشتركة تسمح بتداولها الطوعي على سلطة، هي في كل الأحوال خادمة للمجتمع، متسقة مع تياره الغالب، حارسة للثوابت التي توافق المجتمع على احترامها ومدافعة شرسة عن المقدسات التي ارتضاها الناس لأنفسهم…

أما النقطة الثانية فهي مفصل محوري في قيام هذا الإجماع وشرط ضروري لتواصله، وهي توحيد التصور حول الديمقراطية بأنها، كآلية للحكم، لا دخل لها بالمعايير والقيم الحاكمة للمجتمع، التي تشكل لحمته وسداه، وروح قوانينه وتشريعاته، والموجّه لسلوكه الداخلي والخارجي، إلا من حيث أنها آلية تسمح بالحوار محل التنافي والتدابر.

ويندرج تحت هذا الإطار الفصل التام والكامل بين الديمقراطية من جهة، واحترام حقوق الإنسان أو حقوق المرأة أو حقوق الشعوب من جهة أخرى. وبدون إجراء هذا الفصل التام لن نستطيع الدفاع عن الديمقراطية أصلا، فكيف باستنباتها في أرضنا المبتلاة بقحط الاستبداد والدكتاتورية؟!

ذلك أنه من المعلوم أن الجرائم الأكثر فظاعة في تاريخ البشرية قد ارتكبتها أنظمة تحترم الديمقراطية احتراما كاملا، ولست بصدد الإشارة هنا إلى هتلر أو موسوليني، ولا إلى الإمبراطوريات الاستعمارية وما جنته من جرائم معلومة، بل إلى الديمقراطية الأمريكية ونظيرتها الجنوب الإفريقية اللتين تعايشتا طويلا مع التمييز العنصري، وإلى ديمقراطية بوش وبلير التي تولت تدمير أفعانستان والعراق بالأكاذيب، وإلى الكيان الصهيوني الذي كان إلى وقت قريب يلقب بـ"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وإلى ديموقراطية ترامب وبقراته السمان..

فالديمقراطية كآلية توافقية لممارسة السلطة ولتركها لا تمثل أي مرجعية معيارية لسلوك الدول أو المجتمعات داخليا ولا خارجيا. فالاعتداء، والإبادة الجماعية، والسلب والنهب، أو الامتناع عن ذلك كله تحكمه التصورات العامة التي تنشأ الحضارة داخل كل مجتمع.

فلا مجال حينئذ لارتهان التحول الديمقراطي هنا أوهناك بفرض أي نموذج أيديولوجي أو مجتمعي مسبقا، وجعل ذلك النموذج بعينه شرطا لحلول الديمقراطية. وإن لم نحترم هذه الحقيقة ولم نقطع دابر الوهم الذي تسوقه الآلة الدعائية للغرب وأذنابه بيننا، والذي مفاده أن الديمقراطية هي "مدرسة" لاحترام الحقوق البشرية، فسوف نفشل فشلا ذريعا في سعينا للتخلص من دكتاتوريات تبدو جرائمها أحيانا أقرب إلى جنايات منحرف صغير مقارنة بفظاعات الديمقراطيات العريقة.

أما "مدنية" الدولة فهي نقيض ما يسعى إليه الذين يريدون فرض الانسلاخ من النصوص القرآنية على شعب مسلم لا تزال غالبيته الكبرى متمسكة بما تعتبره ثوابت دينها، فهذا المسعى الفاشل يلغي تماما الإرادة الشعبية مما يدخله في باب الدولة "الدينية" التي تفرض فيها الأقلية على الأغلبية تغيير دينها بقوة "العنف الرسمي".

أما الاستناد إلى الضغوط الأوروبية التي تربط تواصل تمتع تونس "بالمساعدات" بالامتثال لمثل هذه الإجراءات التي تهدد النسيج الاجتماعي؛ فأمر مثير للغثيان، ليس فقط لجهة احتقاره لسيادة الشعب التونسي وانتهاكه لكرامته، بل لأن هؤلاء الذين يشترطون على الشعب التونسي تغيير ثوابت دينه تهتز قلوبهم هلعا لمجرد التفكير في مناقشة تابوهاتهم التي اختلقوها وفرضوها، ومن يجرؤ منهم على مجرد الاقتراب من مقدساتهم يتم القضاء عليه سياسيا وإعلاميا. وأشهر الأمثلة على ذلك المفكر والفيلسوف روجيه غارودي والقس الفرنسي الأب بيار؛ اللذان طالبا فقط بإعادة النظر في أعداد ضحايا الهولوكوست، فكان عاقبتهما أنهما طوردا وتم رميهما في "كهف النسيان" تماما، وفرض عليهما حضر شامل  بقية حياتهما..

والدول الأوروبية كلها لا تسمح بإثارة أي نوع من النقاش حول الهولوكوست، فضلا عن أن يكون موضوعا للمراجعة داخل البرلمان. 

لا شك أن الرئيس التونسي مدعو إلى سحب ما تفوه به، مع الاعتذار للشعب التونسي عن انتهاك ثوابته، وأن هذا هو المخرج الوحيد لديه، ولن يفيده شيئا سعي المحيطين به لإثارة غبار لم يعد يصلح لحجب الرؤية، بعد أن حررت الثورة ودماء الشهداء العقول والقلوب والألسنة.